26-أكتوبر-2020

الشاعرة فاطمة إحسان

ألترا صوت – فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


فاطمة إحسان كاتبة وشاعرة من عُمان، متخصصة في علم النفس، أصدرت مجموعتين شعريتين هما: "سكّة مطر"، و"قلب مائل للزرقة".


  • ما الذي جاء بكِ إلى عالم الكتب؟

لا أتذكر وقتًا كانت فيه المكتبة جزءًا من عالم خارجي، فالمشاهد الأولى في ذاكرتي مؤثثة بمكتبة كبيرة حقًا قياسًا إلى حجم الشقة التي سكناها في مسقط القديمة أواسط التسعينيات، شقة بغرفتين ثالثتهما غرفة الجلوس الواسعة، والتي تغطي الكتب جدرانها بشكل كامل تقريبًا، ولأنها تخص والدي الذي كان يتابع دراسته العليا آنذاك، ويقضي أغلب وقته إن لم يكن كله في تلك الغرفة، تولد لدي شعور عذب وغامض تجاه الكتب في ذلك الحين، لعله يشبه التوق إلى ضفة الأخرى، غامضة، بعيدة، وتزداد فتنة لأن ثمة من هو مفتون بها. لفتتني آنذاك أسماء بعينها، ربما لأنها تكررت أكثر من سواها: نجيب محفوظ، حنا مينه، ومجلدات جبران خليل جبران، لكن البداية الفعلية للقراءة كانت مع قصص الأطفال، كانت سلسلة العم حكيم من دار المنهل من أولى مجموعات القصص التي قرأتها، ومن بعدها قصص المكتبة الخضراء، كانت حكايات ثرية لغويًا، وفيها خيال آسر، وكطفلة ميالة لأحلام اليقظة، كانت هذه الحكايات مادة تغذي خيالًا لا يهدأ لطفلة منعزلة في الغالب، ولا تعرف كيف تبدأ حواراً مع زميلة في مقعد جانبي بالصف. منذ ذلك الوقت بدأت أشعر بأن ثمة ما هو ناقص ومعوّج في الواقع، وأن الحكاية التي لا تترك أبطالها خائبين في منتصف الطريق، يمكن أن تكون "حديقة سرية".

  • ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتكِ؟

كتب كثيرة تركت أثرها في على الصعيدين المعرفي والإنساني، من بينها الكتب التي فتنتني في مطلع مراهقتي وقادتني لتجاربي الأولى في كتابة الشعر، حينها كنت قد قرأت الأعمال الكاملة لبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وبعدها مجموعات محمود درويش الأحدث، وقتها كنت أحتفظ بقصاصة مكتوبة بخطي في إطار معدني على سطح المكتب، عليها أبيات السياب:

"قد انتصف الليل فاطوِ الكتاب.. عن الريح والشمعة الخابية

فعيناك لا تقرآن السطور.. ولكنها العلة الواهية

فأنت ترى مقلتيها هناك.. وذكرى من الليلة الماضية

فتطوي على ركبتيك الكتاب.. وترنو إلى الأنجم النائية"

بعدها بسنوات قرأت "اللاطمأنينة" لبيسوا، حالمٌ آخر يعيش في دهليز متشعب بين الحلم والحياة: "إنني الفاصل بين ما أنا إياه وما لست إياه، بين الحلم وبين ما صنعته الحياة بي". أذكر الرعب الذي رافقني على مدى سبعة أشهر قرأته فيها، كنت أشعر إزاءه كما لو أنني أقف أمام مرآة تعكس أعماقي، بيسوا سيكولوجي بارع، وأستطيع أن أصف الهوامش التي تركتها على نسختي من الكتاب بأنها بمثابة سيرة ذاتية غير معلنة.

كذلك أحببت "البومة العمياء" لصادق هدايت، "الطبيعة البشرية" لألفرد إدلر، وكل صفحة من "فصائل الفضاءات" لجورج بيريك، هزتني "ألعاب العمر المتقدم" للويس لانديرو، كانت الفأس الذي بوسعه كسر بحر متجمد وفقًا لاستعارة كافكا، هناك أيضًا كتاب "المتخفي: الحيوات السرية للدماغ" لعالم الأعصاب ديفيد إيجلمان، والذي جعلني أعيد النظر في مُسلّمات كثيرة حول طبيعة الإدراك البشري.

  • من هو كاتبكِ المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟

أميل للاعتقاد بأن ارتباطنا بكاتبٍ ما، لا سيما في الأدب، يعود إلى الدرجة التي تتقاطع بها تجاربنا الذاتية معه، وكثيرًا ما يكون للوقت والمرحلة دور في نحت هذه العلاقة وتشكيلها، وقد لا تبدو مبرراتها واضحة حتى للشخص ذاته في بعض الأحيان، لكنها تتمثل في تلك الرجفة الخافتة التي تسري تحت الجلد، عند قراءة جملة بعينها. شهدت ومضات كهذه وأنا أقرأ "رسالة إلى الوالد" لكافكا، وحين رأيت مسودات كتاباته في براغ، وصور الأب والعائلة، ونوافذ بيته القديم، شعرت بأني أعود إلى مدينة أعرفها، لا أعرف كيف أصف هذه التجربة تمامًا، يبدو الأمر كما لو أن للحنين نوافذ لانهائية يتسلل عبرها إلى الروح. بالإضافة لكافكا أحب ريلكه كثيرًا، وبيسوا بالطبع، وفروغ فرخزاد، كذلك تجربة كناوسغارد في "كفاحي" من التجارب التي لا يمكن تجاوزها. في السيكولوجيا أحب القراءة لكاي ردفيلد جاميسون، كاي ساردة بارعة، وتُراوح بين المعرفي والشخصي في تناغم ساحر.

  • هل تكتبين ملاحظات أو ملخصات لما تقرئينه عادة؟

غالبًا أحدد الصفحات/ المقاطع التي تلفت انتباهي لأعود إليها فيما بعد، وأدوّن الاقتباسات في أماكن متفرقة، دفاتر ملاحظات، مذكرة الهاتف، حسابات التواصل الاجتماعي، وعندما أعثر صدفة على اقتباس قديم أشعر بأني عثرت على قطعة من ذاكرتي؛ وكأن الاقتباسات والهوامش تمسي وحدات لقياس الزمن والتجربة.

  • هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

نعم ولكن كخيار إضافي فحسب، أعني أن هنالك كتب أفضلها بشكل شخصي وهذا النوع هو ما أحرص على اقتناء نسخة ورقية منه، نسختي التي أدوّن على صفحتها الأولى تاريخ القراءة وعبارة أو اثنتين تعبران عن انطباعي عن الكتاب، في المقابل ثمة كتب تربطني بها علاقة نفعية بالدرجة الأولى كمصادر تلزمني لتحضير مادة إعلامية مثلًا، ولا أشعر بحاجة لاقتناء نسخة ورقية منها، هنا يكون أميل للكتاب الإلكتروني، كما أنني أحتفظ ببعض المجموعات الشعرية في ذاكرة هاتفي، قراءة النصوص القصيرة من الشاشة الالكترونية لا تتطلب جهدًا كبيرًا، وتتيح لي القراءة في أوقات الفراغ الصغيرة خارج المنزل، عندما لا يكون بحوزتي أي كتاب.

  • حدّثينا عن مكتبتك؟

منذ عامين تقريبًا، أصبحت لدي غرفة تغطي أرفف الكتب جدرانها بالكامل تقريبًا، وتتوسطها نافذة كبيرة، أشعر حيالها وكأن طفولتي عادت لتطوقني من جديد، لا شيء يضاهي الجلوس محاطةً بالأسماء والعناوين التي لا تنفك تغرس ظلالها العميقة في وجدانك، القسم الأكبر من المكتبة مخصص لكتب الشعر، يليه قسم علم النفس، والباقي يتوزع بين ألوان أخرى في الأدب والفلسفة، وعناوين متفرقة حول موضوعات تثير فضولي من حين لآخر.

  • ما الكتاب الذي تقرئينه في الوقت الحالي؟

أقرأ "الدماغ الخلاق: علم أعصاب العبقرية" للأكاديمية الأمريكية نانسي أندرياسن، والذي يتناول وجهًا من الجدل الأزلي في علم النفس حول اشتباك الجينات والتجارب، وأثر كل منهما على الذكاء البشري وملامح الشخصية، وحتى الاضطراب النفسي، لدي فضول ملحّ حول كل الإجابات التي يمكن أن تكون ذات دلالة في هذا الشأن. تتطرق أندرياسن لأمثلة مهمة مثل ليو تولستوي وإرنست هيمنغواي وسيلفيا بلاث وآخرين، وتفترض أن وجود تدخل علاجي ملائم كمضادات الاكتئاب المتاحة في وقتنا الحاضر، كان من الممكن أن يساعد هؤلاء المبدعين على العيش على نحو أفضل ودون أن يتأثر نتاجهم الإبداعي سلباً. بعد ذلك سأقرأ على الأرجح رواية "رسالة قصيرة للوداع الطويل" لبيتر هاندكه، كنت قد أجلت قراءتها لوقت طويل، ومؤخراً ذكرتني بها صديقتي أمل التي أثق جداً بحدسها في انتقاء الكتب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة منير عليمي

مكتبة عبد الغني صدوق