25-مايو-2020

الروائي عثمان لطرش

ألترا صوت – فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


عثمان لطرش روائي من تونس. من أعماله: "مطماطة" و"قروح الحب" و"دمع أسود".


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

يقول إيليا أبو ماضي: "جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت/ ولقد أبصرت قدّامي طريقا فمشيت/ وسأبقى ماشيا شئت هذا أم أبيت/ كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري". هذه الأبيات تجيب على السؤال إجمالا ولكن لا بدّ للخطاب المجمل من تفصيل.

أنا من الناشئين في العدم ولست من السابحين في النعم لم أر كتابًا ولا رفوف مكتبة في بيتنا البائس التي يؤوي سبعة أطفال وعددًا يماثله من الماعز والضأن وحمارًا أجرب لا يكف عن النهيق، ولكن كان الوالدان يؤمنان بالتعليم ويحثاني وإخوتي على التعلق بهذا الحبل المتين، وهما إلى اليوم يريان العلم في المناهج وكراس المعلم.

مدرستي ومعهدي اللذان تطوقهما الجبال، في قرية مطماطة في قابس، لم يضمّا مكتبة (العقد الثامن من القرن العشرين) إنما تزورنا الكتب مرة كل شهر وتقبع بيننا ساعة وتطير صاعدة الرُّبا تستعجل الإياب إلى المدينة الحاضرة، قابس، فكنت أستعير بعض الكتب من المكتبة المتجولة، وكان لا يسمح للفرد الواحد أن ينتقي أكثر من عنوانين. هذه الحافلة طالما شيعتها بعين حالمة وانتظرتها بشغف عاشق. ربما هي الشرارة الأولى لأنني كنت أقرأ حتى ما يستعيره زملائي الكسالى.

ولكن وقعت في أسر الكتب أو أصابتني لوثة المطالعة وجذبتني آلهة الورق عندما دخلت الجامعة فقيرًا، فوجدت في مكتبة الجامعة أو مكتبة إيبلا أو المكتبة الوطنية ما أخفي به عورة بؤسي المادي، حتى وجدتني مدمنًا دونما تقيد بنوع أدبي، بل فضولي قادني حتى إلى مجالات بعيدة عن التخصص في اللغة العربية مثل التاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة والأنثروبولوجيا، وكل عنوان يثيرني فضلًا عن المجلات والدوريات.

إذًا جاز القول إنّ المدرسة والمعهد والجامعة هي المصابيح التي هدتني إلى عالم الكتب، لا سيما أنني أميل منذ نعومة أظافري إلى الأدب، والمدرسون يلحظون ذلك ويرسمون لي مستقبلًا مشرقًا.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟

في البدايات كنت متأثرًا بأدب جبران خليل جبران: "الأجنحة المتكسرة"، و"دمعة وابتسامة". وروايات جرجي زيدان: "فتاة القيروان". وخاصة بكتابات السيرة الذاتية لأن بعضها يقرأ حياتي وينكأ جراح الفقر التي آلمتني صغيرًا وغذت قلمي كهلًا وهي تنفذ إلى دهاليزي المظلمة، ويصل بي الأمر إلى البكاء خاصة في سير الفاقة والحاجة مثل "الأيام" لطه حسين وثلاثية حنا مينه: "بقايا صور" و"المستنقع" و"القطاف". وأذكر أنني أخذت في بكاء مرير وأنا أقرأ الجزء الثاني من ثلاثية حنا مينه "المستنقع" وفيها وصف دقيق لفقر مدقع تتخذ فيه الأسرة شجرة مغطاة بملاءة بيتًا، وأب يفتكّ ما تجنيه أخوات الكاتب الراوي من دراهم ليمضي إلى خمرته الرخيصة ويتركهم نهب الجوع أملهم في يد كريم تمتد لهم وطالما ناموا على الطوى في العراء.

في مرحلة الدراسة الجامعية، كانت الكتب النقدية هي الأكثر تأثيرًا لأن المطالعات موجهة إلى التحصيل ونيل الإجازة، وكنت أصرّ دومًا على النجاح حتى لا أفقد المنحة الجامعية فبغيرها ستتوقف مسيرة الدراسة ويجف النبع، وأعود إلى الرعي بين الشعاب تخزني أشواك جبل أحبه وأهابه بسبب أشواك الفاقة. في هذه المرحلة كنت أحب رولان بارت وجيرار جينيت وتودوروف وتوفيق بكار، كتب أتخذها معولًا لفهم النصوص ومقاربة الكتابات الإبداعية، تفرش أمامي بساط النجاح، وفي ذات الوقت مكنتني من الإلمام بعالم الرواية وسائر السرديات التي أسير في دربها الآن إبداعًا.

الآن الأمر تبدل تبديلًا وصارت جل قراءاتي روائية، أو تدور في فلكها، وقد رسخ كثير منها في ذهني مثل "الجهل" لميلان كونديرا، و"المسخ" لكافكا، و"فرانكشتاين في بغداد" للسعداوي، و"موت صغير" لمحمد حسن علوان، ولا أنسى روايات عربية انبهرت بها في فترة ما من قبيل "موسم الهجرة إلى الشمال" و"شرق المتوسط" و"مدن الملح" و"اللص والكلاب" و"المتشائل" وغيرها كثير.

في تونس أول رواية سكنتني هي "برق الليل" للبشير خريف الذي أراه رائدًا ويبدو لي سرده ألذ من سر محمود المسعدي، وتأتي بعدها روايات جديدة كثيرة مثل "الطلياني" لشكري المبخوت، و"الكرنفال" للراحل محمد الباردي، و"الرحلة الهنتاتية" لعبد القادر الطيفي، و"المشرط" لكمال الرباحي، و"باي العربان" لجمال الجلاصي، و"الصمت" لهند الزنابدي، و"حمام الذهب" لعيسى المؤدب، وعناوين أخرى أثرت المدونة الروائية في تونس، لا سيما ما صدر منها في العشرية الأخيرة مع انبجاس فجر الحرية بضياء وأنوار.

  • من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟

ليس لدي كاتب مفضل أحب كل مبدع يخرق المحظور ويسقط أصنام التقليد ويحلق حيث يشاء. لا يتبع خطى غيره لأن الفن هو الأنا، والمبدع يشتغل على غير منوال وفي ذهنه ألف منوال. والانبهار المفرط بكاتب بعينه يدفعك من حيث لا تدري إلى التقليد والاتباع وهما نقيض الإبداع والتجديد. ولكن لا يمكن أن أخفي إعجابي بكافكا وعبد الرحمن منيف، فأجد في الأول براعة عجيبة في الهندسة الروائية وقدرة رهيبة على تسريد العجيب، وأحيانًا البسيط، وأجد في الثاني، أي منيف، جاذبية الحرف وجرأة الطرح وامتلاكه لخيط سرد يقتنص القارئ ويوقعه في سحر عوالمه المتخيلة.

  • هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟

القراءة أضراب، فالأدب بأجناسه فن للمتعة، بل غالبًا ما أصل مع النص المقروء مرحلة التجلي التي يتحدث عنها المتصوفة، وقتها لا أحتاج الى ورقة وتوقف وتسجيل معلومات، حسبي أن أسمو عروجًا إلى سماء الفن والجمال، ولكن ثمة ضرب من القراءة فيها بحث عما أثث به رواية أو دراسة أقارب بها رواية نالت مني وقتها أمضي حتى إلى قراءة ثانية لأنهل من معين الكتاب، وأستزيد من الأفكار، فمثلًا كتاب فن اللامبالاة لمارك مانسون عدت لقراءته ومعي قلم لأنه ثري بأفكار تصلح مادة لرواية ما زالت ملامحها غامضة. ولكن عمومًا هي طريقة لا يعيبها عاقل. فهذا أحد القدامى يقول "العلم صيد والكتابة قيد".

  • هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

الكتاب كائن ورقي ومن المؤلم كالوجع في الضلع أن يتحول إلى كائن الكتروني فلست أروم القراءة من الهاتف أو الحاسوب رغم الوفرة ونفاسة ما تختزنه الأجهزة، لأنّ ملامسة الورق فيها لهفة وشهقة وحميمية، ولكن أحيانًا أضطر الى ما أكره لسدّ نقص في التوزيع، فمثلًا رواية "الكتب التي التهمت والدي" لألفونسو كروش و"قواعد العشق الأربعون" لأليف شفق نفذتُ إلى مناخاتهما الرائعة عبر الحاسوب، وهذه الأيام أجدني مدفوعًا إلى الهاتف لقراءة الرواية الفائزة بجائزة البوكر "الديوان الاسبرطي" لعبد الوهاب عيساوي. وإن عبتُ هذا الضرب من المطالعات فلست أنكر فضله، فهي مطية هذا الجيل إلى الكتاب والمطالعة، وفي النهاية نحن جيل ما قبل الأجهزة لذلك لا يطيب لنا الإبحار في عوالمها رغم خيرها العميم.

  • حدثنا عن مكتبتك.

في الحقيقة مكتبي متواضعة لست راضيًا عنها فهي تبدو لي جوفاء عرجاء لأنها غير مكتملة، وليس هينا أن تؤثث مكتبة بما يكفيك من الكتب والمراجع والمعاجم والمجلات لثقب فاضح في الجيب ولغلاء الكتب القيمة، وبالنسبة إلى مكتبتي فهي على فقرها لا تخلو من بعض المعاجم والمراجع، ولكن معظم ساكنيها من عائلة السرديات، وخاصة الروايات التي بدروها تضاعفت أسعارها فبعضها يصل ثمنها إلى أجرة يوم عمل (ستون دينارًا تونسيًا) وتبقى أفضل مناسبتين للتزود هما معرض تونس الدولي للكتاب، ومعرض الكتاب التونسي، وأنا لا أخطئ لهما موعدًا بل أحتفل بهما وأنتقي الاصدارات الجديدة والروايات المتوجة في الجوائز العربية والتونسية المعروفة لأطور تجربتي.

  • ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟

قراءاتي هذه الأيام جزائرية فأنا الآن على وشك الفراغ من رواية "الموت في وهران" للحبيب السايح، والحقيقة أنا أعدُّه من الروائيين المَهَرَة ينضج نصوصه دون استعجال فتصل القارئ كالأعناب وقد حان قطافها. وأمامي الرواية الحدث وهي "الديوان الإسبرطي" لعبد الوهاب عيساوي، وبها سأكتشف هذا الكاتب الذي لم أطلع على أي من منجزاته السردية بعد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة محمد الحباشة

مكتبة شيخة حليوى