11-مايو-2020

القاصة شيخة حليوى

ألترا صوت – فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


شيخة حليوى قاصّة وشاعرة من فلسطين تقيم في يافا. درسَت اللغة العربية وآدابها وتعمل في مجال الإرشاد والمناهج التعليمية. صدرت لها أربع مجموعات قصصيّة هي: النوافذ كتب رديئة (2016) خارج الفصول تعلّمت الطيران (2016)، سيدات العتمة (2015)، الطلبية C345 (2018) التي فازت بجائزة الملتقى للقصة القصيرة بالكويت (2019).


  • ما الّذي جاء بكَ إلى عالم الكُتب؟

الكُتب كانت العالم الموازي الّذي خلقته لنفسي في قريتي البدويّة شبه المُعتمة، العالم الّذي أتجرّد فيه من هويّاتي المُرتبكة بين المدينة الكبيرة والقرية، أغيب في صفحات الكتب نكرة، شبحًا، وأحيانًا إلهةً تُشرفُ على الأحداث من سمائهِا. ما إن بدأتُ "أفكُّ الخطّ" حتّى صارت كلّ الكتب مشروع حياة مؤجّلة، ونفق هروبٍ سريّ.

كانت هناك مكتبة متجوّلة تجوب القُرى البدويّة شبه المعزولة عن العالم، على شكل شاحنة ملوّنة. تتوقّف على جانب الشّارع الرئيس فأهبط التلّة راكضة، ثمّ أصعدُ درجاتها الثلاث وأغيبُ فيها. لا يقطع تصفّحّي رفوف الكتب المُدهشة سوى السّائق وهو ينهرني: خلّصينا عاد! اختاري كتاب! الغريب في الأمر ألّا أحد يتذكّر ذلك بل ويُنكرهُ عليّ. أنا أسمحُ أحيانًا للآخرين أن يرمّموا ذاكرتي بما التبس عليّ فيها ومنها وأصدّقهم من باب أنّهم أدرى منّي بماضي القرية.

قد يكون توجّهي للكتابة في سنٍّ متأخرة محاولة للإبقاء على تلك المكتبة شاحنة تتجوّل في رأسي، فلا يُنكرها أحدٌ عليّ وأنا أهبطُ التلّة عصر كلّ يوم جمعة وأعود حاملة ثلاثة كتب أنهيها في نفس الليلة.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب الأكثر تأثيرًا في حياتك؟

لكلّ مرحلة من مراحل حياتي كتبٌ مختلفة، لا أقول إنّها تخلّف أثرًا بقدر ما كانت مُعالجًا نفسيًّا أو مُعالجًا بالخيال. في المراهقة كانت كتب نجيب محفوظ وإحسان عبد القدّوس وكلاسيكيّات الأدب الفرنسيّ والرّوسيّ، وهي الكُتب الّتي توفّرت في مكتبة عمّي الأصغر، أتسلّل إلى كوخه أسحبُ كتابًا وأضجعُ على بطني على الأرضية الباردة ولا أقوم إلا وقد أنهيتُ الكتاب، أو حتّى تكتشفُ أمّي غيابي الطويل فتنادي باسمي من كوخنا. هذه الرّوايات بما حملته من حبّ وكراهيّة وبؤس وسعادة وصراعات كانت تخلقُ لي عالمًا خاصًّا ينتشلني لساعات من واقعي المُرتبك، أدخلهُ وأعيش حياة شخوصه وأحيانا أقتحمهُ شخصية جديدة تشارك الأحداث وتغيّر مسارها. ثمّ لاحقًا كانت دواوين الشّعر القديم وكتب النحو واللغة الّتي صقلت لغتي وأبهرتني وفتحت لي بابًا على جمال العربيّة لم يُغلق حتّى اليوم. ما زلتُ مخلصة لها، أعود إليها دائمًا بمتعة ودهشة القراءة الأولى. شرح ديوان المُتنبّي للشّيخ ناصيف اليازجيّ، جامع الدروس العربيّة للشّيخ مصطفى الغلايينيّ من الكتب الّتي لا أملّ قراءتها والعودة إليها دائمًا.

روايات الطّيب صالح، جبرا إبراهيم جبرا، أعمال توفيق الحكيم ما زالت أيضًا تشدّني فأعود إليها.

 في السنوات الأخيرة تراجعت قراءاتي الأدبيّة لصالح قراءة الدراسات النسويّة والقياديّة والبداجوجيا، وهي قراءة تصبّ في مجال العمل المهنيّ أكثر من المتعة. ومن القراءات الأدبيّة القليلة في هذه المرحلة بعض الروايات التي شغلتني ليس بمعنى أنّها قلبت حياتي أو غيّرت مفاهيمي ومعتقداتي، هو انشغالٌ يدعوني للتأمّل أكثر في معاني الحياة والموت والمعاناة، ربّما صرتُ أقلّ خوفًا وقلقًا من قبل. "كافكا على الشّاطئ" لموراكامي، "ظلّ الرّيح" لزافون، روايات أمبرتو إيكو.

  • من هو كاتبك المُفضّل ولماذا أصبح كذلكَ؟

ليس هناك كاتب مفضّل، هناك كاتبٌ يأسرني ويشدّني عملهُ في مرحلة مُعينة أو في عملٍ مُعيّن ولا يُصبح كذلك في عملٍ آخر. ربّما تشدّني أسماء مُعينة أكثر من غيرها: موراكامي، الطيّب صالح، مورافيا، نجيب محفوظ.

  • هل تكتبينَ ملاحظات أو مُلخّصات لما تقرئينهُ عادة؟

في الروايات والقصص تشغلني القراءة فقط، وهي قراءة سريعة غير متأنيّة، خاصّة إذا شدّني العمل الأدبيّ، لا أتوقّف عن القراءة إلاّ لبعض الواجبات. في كتب الدراسات والنقد والنحو أتركُ دائمًا ملاحظات على الصّفحة أو الهامش على شكل أفكار أو أسئلة أو تذكير بمصدرٍ آخر يتقاطع مع المكتوب، أو على دفتر صغير يضيعُ بين الدفاتر الأخرى.

  • هل تغيّرت علاقتك مع الكُتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

ليس كثيرًا. قرأت عدّة كتب إلكترونيّة بسبب غيابها في نسخة ورقيّة ولكنّها غير مريحة، هي ليست نوستالجيا الورق ورائحته (على العكس أعاني من حساسيّة للورق خاصة القديم) بل السهولة والرّاحة كأن تحمل الكتاب معك في كلّ مكان في البيت وخارجه، كما أنّ عملي يتطلّب جلوسي ساعات أمام شاشات الكمبيوتر، فتصبح قراءة كتاب على شاشتهِ معاناة أخرى للجسد والعين. رغم ذلك أحتفظ بعشرات الكتب الإلكترونيّة على أمل قراءتها يومًا ما.

  • حدّثينا عن مكتبتك؟

مُرتّبة جدًّا، حسب المواضيع والأهميّة. المكتبة الكبيرة أحتفظ فيها بالمراجع والكتب القديمة، والأقل أهميّة في المكتبة الصّغيرة. أفكّر في التخلّص من بعض الكتب الّتي لم تشدّني ولن تشدّني ولكنّي أتراجع دائمًا. مكتبة متنوّعة جدًّا بين المراجع والمصادر القديمة (ولها النصيب الأكبر)، كتب النقد، كتب النحو، تاريخ الأدب العربيّ، دراسات في النسويّة، دواوين الشّعر القديم، المجموعات الكاملة لبعض الكتّاب، الرّوايات، والشّعر.

أقتني كتبًا أينما وجدت، أحيانًا دون منطق قرائيّ وعادة أندم على جزء كبيرٍ منها.

فيها رفّان لكلّ واحد قصّة إنسانيّة جميلة. الرّفّ الأوّل هو مجموعة مراجع ومصادر مهمّة في النحو واللغة كنتُ أطلبها من بائع الخضروات الّذي كان يأتي من الخليل إلى يافا قبل عشرين عامًا. أشتري منه الكوسا البلديّة والملوخيّة ثمّ أحمّله قائمة بالكتب الّتي أحتاجها، وأدفعُ ثمنها بالتقسيط. لا أنسى ابتسامته وهو يعلن من ساحة الحارة: هييي ستّ شيخة جبتلك كتابين، وهاي معي كوسا بلديّة كمان.

الرّف الثاّني له أيضًا قصّة عجيبة وحزينة، قبل أكثر من عشر سنوات كنت في زيارة للمكتبة في يافا لأجد على مدخلها صندوقين فيهما كتب قديمة وبالية، سألت أمينة المكتبة عنها: قالت إنّ عجوزا يهوديّة عراقيّة أحضرتهما باكية وقالت إنّها أنقذتها بصعوبة من أبناء أختها الّذين استولوا على شقّة أخيها الّذي مات وهو في الثمانين. عاش وحيدًا مع كتبه الّتي أحضرها من العراق وأمضى أيامه هنا يقرأها. رموا من الشّباك معظم الكتب وهذا ما استطاعت تخليصه منهم، وهي تتبرّع بها لأيّ شخص يقدّر قيمتها. أقدمها يعود للعام 1938، وهي كتبٌ ومراجع عربيّة مهمّة تحمل في صفحاتها ملاحظات صاحبها العراقيّ بخطّ جميل. قيمتها ليست في العناوين الّتي تحملها (بعض العناوين أملكه بنسخ حديثة ومُنقّحة) بل بذلك الشّغف والإخلاص الّذي حملهُ معهُ ذلك العراقيّ الوحيد للّغة العربيّة والثقافة العربيّة في بيئة تعادي كلّ ما هو عربيّ وتنكر عليه عروبتهُ.

  • ما الكتاب الّذي تقرئينهُ في الوقت الحالي؟

لا يحدث أن أقرأ كتابًا واحدًا إلاّ نادرًا. أقرأ حاليًا رواية "1234" لبول أوستر ترجمة أحمد.م.أحمد، و"حديقة السّهو" مجموعة قصصيّة للقاصّ العُماني محمود الرّحبيّ، وكتاب آخر يحوي مقالات مترجمة عن تاريخ النسويّة، ورواية "قصّة حبّ مجوسيّة" لعبد الرّحمن منيف.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة ابتسام الوسلاتي

مكتبة محمد عيسى المؤدّب