06-يناير-2020

الكاتب والإعلامي سليمان المعمري

ألترا صوت - فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


سليمان المعمري كاتب وإعلامي من عُمان. عمل رئيسًا لقسم البرامج الثقافية في إذاعة عمان. كتب الشعر والرواية والقصة. نشر روايتين هما: "الذي لا يحب جمال عبد الناصر"، و"شهادة وفاة كلب". ومما أصدره في القصة القصيرة: "ربما لأنه رجل مهزوم".


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

أظن الآن بعد تأمل حياتي الماضية أن الذي حبّبني في القراءة وقربها إليَّ هي مجلة ماجد التي كان خالي سالم يجلبها لنا – خالَيّ الصغيرين وأخي سيف وأنا - كل أسبوع في طريق عودته من دبي حيث كان يعمل. كنا نقرأها من الغلاف إلى الغلاف، وكانت ترد فيها حكايات تراثية طريفة وأشعار جميلة، وقصص بوليسية مسلية أحالتني بعد ذلك إلى مكتبة المدرسة. لا أذكر ما هو أول كتاب قرأته بالضبط ولكني لا أنسى في تلك المرحلة المبكرة من حياتي وأنا بين الثالثة عشرة والسادسة عشرة إن لم تخنّي الذاكرة، روايتَين هما "الحب حيث المطر" لنجيب محفوظ، و"العمر لحظة" ليوسف السباعي، فقد كانتا بداية تعرفي بشيء اسمه القص، أن تروي قصة كاملة للناس على أنها تحدث الآن، وفي الواقع، ولا تفوتك منها تفصيلة. كنتُ ألهث وراء أحداث الروايتين –اللتين سأعرف لاحقًا أنهما ليستا أجمل ما كتب مؤلفاهما- وأنا مندهش من قدرة الكاتبين على تذكّر كل هذه الأحداث والمشاعر وجعلنا نصدقها. وأظن أن هذه هي أيضًا بداية حبي للأدب وسعيي أن أكون كاتب قصة.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب الأكثر تأثيرًا في حياتك؟

من الصعب تحديد كتاب واحد أو حتى عدة كتب. واسمح لي هنا أن أكرر تشبيهًا ذكرتُه في حوار سابق عن تأثير القراءة في الإنسان، فهو أشبه بتأثير الغذاء في معدة هذا الإنسان، فالغذاء بأنواعه، وببروتيناته وكربوهيدراته ودهونه، وسُكّره وملحه، هو الذي يؤدي الى نمو أجسامنا، ولكننا لا نملك دليلًا على أن تلك التفاحة التي التهمناها ذات غداء هي التي أدت إلى هذا النمو، أو تلك السمكة المشوية، أو ذاك العصير. وإذا كان المثل الفرنسي يرى أن الأسد بضعة خراف مهضومة، فمن باب أولى أن عقولنا هي مجموعة من الكتب المقروءة التي هُضِمتْ جيدًا وصارت جزءًا من كينونتنا، دون أن نشعر ربما، أو ندري أيها بالضبط تسلل الى دواخلنا بخفة. ربما كان "بلدي" لرسول حمزاتوف، أو "تقرير إلى غريكو" لكازانتزاكي هما الكتابَيْن الأكثر تأثيرًا، فهما جعلاني في حيرة من أمري: هل أندهش من حكمة الحياة المقطّرة فيهما، أم من الاصطيادات الفاتنة للقطات هذه الحياة التي لا ينتبه لها إلا شاعر أو ساحر، أم من اللغة البديعة التي كسرت كل الحواجز المتوهمة بين الشعر والنثر. وربما كانت رواية "كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك" للروائي الجزائري عمارة لخوص التي جعلتْني أفتتن بالسخرية لغةً وعوالمَ متخيلة. هذه الكتب الثلاثة كان لها تأثير إيجابي كبير عليّ. ولكني سأتحدث أكثر عن كتاب رابع لا يقل عنها تأثيرًا ولكن في الضفة المقابلة. فقد كان تأثيره سيئًا إلى الدرجة التي أعتبره فيها أسوأ كتاب قرأتُه في حياتي. إذْ تسبب لي في عقدة نفسية ظلت ترافقني سنين طويلة بعد قراءتي له. إنه كتاب "تاريخ الخلفاء" لجلال الدين السيوطي الذي قرأتُه في فترة المراهقة، أي فترة قريبة من قراءتي لروايتَي "الحب تحت المطر"، و"العمر لحظة" اللتين تحدثتُ عنهما في إجابة السؤال السابق. في تلك الفترة -فترة المراهقة أعني- كان عقلي إسفنجة مهيأة لامتصاص أي شيء بدون تمحيص. لا أذكر أية مناسبة أوقعتْ كتاب السيوطي في يدي، ولكني أذكر فقط أنني صدقتُ كل ما جاء فيه عن الخلفاء رغم أن تفاصيل كثيرة لا تدخل العقل. ومنها التفصيلة التي تسببت لي في العقدة النفسية. فقد ظللتُ سنين طويلة مرعوبًا من فكرة الموت بسبب وصف السيوطي على لسان أحدهم ألم الموت بأنه أشبه بغرس لوح به مسامير كثيرة (لا أدري هل قال ثلاثين مسمارًا أم أقل قليلًا) في صدرك وتحريكها ذات اليمين وذات اليسار! يا إلهي! كم سنة ظللتُ أفكر في هذا المشهد كلما قيل لي مات فلان، وكنتُ أتخيّل نفسي وأنا أجابه وقتَ الموت تلك المسامير اللعينة. ورغم أن هذه وحدها كافية لجعلي أعتقد أنه أسوأ كتاب قرأته إلا أن هناك أسبابًا أخرى لا تقل أهمية. فهو زاخر بكثير من الأكاذيب التي لا تدخل العقل، مثلًا الخليفة عمر بن الخطاب انتهى من ألم الموت (ها نحن نعود للموت من جديد) في نفس الليلة التي اغتيل فيها عثمان بن عفّان، أي بعد اثني عشر عامًا من مقتله، وأيضًا هاك مثالًا آخر: الخليفة المتوكّل كان لديه أربعة آلاف جارية دخل بهن كلهن، رغم أنه مات وهو ابن 41 عامًا فقط!!

  • من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟

إذا افترضنا أن الكاتب المفضّل هو الذي تحب جميع كتبه (أو معظمها على الأقل) فسأقول محمود درويش وعبد الفتاح كيليطو ورولان بارت وإدواردو غاليانو. فلا أذكر أنني قرأتُ كتابًا لأحد من هؤلاء الأربعة فشعرتُ بخيبة أمل. مع العلم أننا نشعر بهذه الخيبة أحيانًا ونحن نقرأ لكاتب نحبه، بمن في ذلك الكتّاب الكبار مثل كونديرا وماركيز.

سأكون أكثر تحديدًا معك وأقول كيليطو، الذي ما انفك يُدهشني بالتقاطاته النقدية الحاذقة في التراث العربي شعرًا وسردًا وفلسفة ومقامات، وكذلك في الأدب الغربي الحديث، وتوغله في المناطق الجمالية لكتب تراثية عربية لم نكن متنبهين لما تحويه من جمال قبل كيليطو الذي أوتي عينًا خبيرة قادرة على الغوص في عمق أي نصّ يقرأه. في استطلاع رأي ثقافي أُجري معي عام 2010 حول الأديب العربي الذي ترى أنه يستحق نوبل في الأدب قلتُ بدون تردد عبد الفتاح كيليطو، وقد حصلت لي فرصة العام الماضي (2018) لإعادة قراءته من جديد لأسباب إعلامية، حيث كنتُ مكلفًا بإدارة جلسة له في مسقط نظمتها مؤسسة بيت الزبير. وكم كانت رحلة قرائية ممتعة مع أعماله الكاملة التي أصدرتها دار توبقال المغربية. في تلك الجلسة اخترتُ عبارةً له رأيتُ أنها الأنسب لتقديمه، خاصة أنه هو نفسه يرى أنها عبارة ينبغي أن تكون شعارًا لكل كاتب: "اعمل على نحو يجعلك فريدًا من نوعك".

  • هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟

في العادة لا أحبذ أي شخبطات أو تلوينات داخل الكتاب. ليس لأني مهووس بنظافته ولكن لأنني لا أود أن أقطع استرسالي في القراءة. صحيح أنني أحيانًا عندما أمر بعبارة جميلة فيه أو لقطة مدهشة أتوقف عن القراءة وأرنو ببصري للسماء متفكّرًا في عمق الفكرة أو محاولًا تشرُّبَ جمال الجُملة داخلي، ولكن هذا هو أقصى ما يمكن أن أفعله دون أن أفكّر أن ألون العبارة أو أضع تحتها خط كما يفعل بعض الأصدقاء. غير أن هذه القاعدة لا أطبقها إلا على الكتب التي أقرأها للمتعة أو الرغبة الشخصية. لكن ثمة كتب كما تعلم نقرأها لأسباب أخرى، فمثلًا أنا أقرأ أحيانًا كتبًا لأني سأحاور فيها قارئها في برنامجي الإذاعي "كتاب أعجبني"، ولأن هذا البرنامج يتيح للضيف أن يختار الكتاب الذي يشاء فإن بعض الكتب تكون أحيانًا ليست من النوع المفضل لدي، وإنما أقرأها بدافع تأدية الواجب لا أكثر (وكم اكتشفتُ بالمناسبة كتبًا جميلة كثيرة بهذه الطريقة)، ولذا فإنني أضع لها بعض الملخصات التي تفيدني في محاورة القارئ.

هناك أيضا كتب أقرأها كمخطوطات جديدة لأصدقاء لم تنشر بعد، وفي هذه الحالة فإنني –على عكس الحالة الأولى- أملأها بالملاحظات، ولا أوفّر أي شخبطة عليها. إذ أملأها بالملاحظات السلبية أو الإيجابية، حول الفكرة أو طريقة الصياغة أو اللغة. فهذا هو الغرض من القراءة في هذه النوعية من الكتب.

  • هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

أبدًا. مازال الكتاب الورقي هو المفضّل لدي، دون أن يعني هذا رفضي للكتاب الإلكتروني، بل على العكس ازداد اعتمادي على الكتب الإلكترونية كثيرًا في السنوات الأخيرة بسبب الاضطرار المفاجئ لها لبرامجي الإذاعية. فمكتبتي لا تسعفني دائمًا. إلا أنني وأنا أقرأ الكتاب الإلكتروني لا أشعر بالمتعة نفسها التي أشعر بها وأنا أقلب صفحات كتاب ورقي وأشم رائحة الورق المنعشة. الكتاب الورقي أكثر حميمية.

  • حدّثنا عن مكتبتك؟

تستطيع أن تقول إن لدي مكتبتين: إحداهما هي غرفة صغيرة مبنية خصيصًا لتكون مكتبة ورفوفها وأرضيتها كلها ممتلئة بكتب كثيرة تتوزع اهتماماتها بين الأدب بشكل خاص، والتاريخ والسياسة وعلم النفس والفلسفة والفنون وغيرها، أما الثانية فهي غرفة نومي، إذ تضم زاوية صغيرة منها عدة رفوف من الكتب التي أسمّيها الكتب ذات الحظوة، وهي عادة الكتب التي أحبها أكثر من سواها، والتي لا أريد لأي أحد أن يراها في مكتبتي الأخرى الأكبر لكي لا يطلب استعارتها. من هذه الكتب ذات الحظوة هناك أيضا مجموعة أخرى أسمّيها "كتب الضرورة" تنام بجانبي على السرير، وهي الكتب التي لا تحتمل قراءتها التأجيل، إما لأهميتها بالنسبة لي، أو لأنها من الكتب التي لها علاقة بعملي الإذاعي.

  • ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟ 

كتاب "تجوال" لهرمان هيسه، ترجمة طاهر رياض. وهو كتاب أهدانيه صديقي الكاتب حمود سعود منذ أربعة أيام. عبارة عن نصوص تأملية فاتنة عن الطبيعة والحب والمطر والوحدة والموت والأشجار. ونصّه عن الأشجار من أجمل نصوص الكتاب، ينبهنا فيه إلى ضرورة الإصغاء إلى الأشجار: "من تعلم كيف يصغي إلى الأشجار لا يعود يبتغي أن يكون شجرة، إنه لا يبتغي إلا أن يكون ما هو عليه. ذلكم هو الوطن: تلكم هي السعادة".

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة محمد العجاتي

مكتبة فراس حج محمد