06-مايو-2019

الشاعر والمترجم أمارجي

ألترا صوت – فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


أمارجي شاعرٌ ومترجمٌ سوريٌّ، من مواليد اللاذقيَّة 1980، صدرت له أربعة دواوين شعريَّة. حصل على جائزة M.A.R.I.C الدَّوليَّة للشِّعر والنَّثر التي تنظِّمها "الحركة الفنِّيَّة لاستعادة الهويَّات الثَّقافيَّة" بمدينة سالِرْنو في إيطاليا، وعلى جائزة مانْيا غريْتْشَا (اليونان الكبرى) الدَّوليَّة للشِّعر بمدينة جنوة الإيطاليَّة، في فرعها المخصَّص للشَّذرات. من ترجماته عن الإيطاليَّة: "أفكار" لجاكومو ليوباردي؛ "المدينة الميِّتة" لغابرييل دانُّونتسو؛ "الأعمال الأدبيَّة" لليوناردو دافنشي؛ "الآثار الشِّعريَّة الكاملة" لدينو كامبانا؛ "شجرة القنفذ" لأنطونيو غرامشي؛ "جسدٌ وسماء" لبيير باولو بازوليني؛ "البحر المحيط" لألِسَّاندرو باريكُّو؛ "واحدٌ ولا أحد ومِائة ألف" للويجي بيراندِللو؛ "القصص" لجوزيبِّه تومازي دي لامبيدوزا؛ و"غيرة اللغات" لأدريان برافي.


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتاب؟

ينطوي قولكَ "جاءَ بك" على شيءٍ من ذلك السِّحر الذي نجده في كلمة "سَفَر"، ولا أعرف لماذا حين قرأتُ هذا السُّؤال ذهبَتْ بي أفكاري في الحال إلى عنوان كتاب الرَّسائل المتبادلة بين الشَّاعرة الإيطاليَّة سيبيللا ألِرامو والشَّاعر الإيطاليِّ دينو كامبانا: "سَفَرٌ اسمهُ الحُبُّ". ربَّما لأنَّ كلَّ قراءةٍ هي سَفَرٌ بصيغةِ الحُبِّ. ومن المفارقة ربَّما أن يعطيك مفتاح هذا السَّفَر إلى عالم اللغة شخصٌ لا يعرف القراءة والكتابة. ما تزال ماثلةً في ذاكرتي تلك اللَّحظة من أحد مغيبات صيف عام 1992 أو 1993، حين كنت أنظر إلى جدَّتي الغارقة في غلالات الضَّوء البرتقاليِّ الدَّاخل من النَّافذة، وهي تبحث في صندوقٍ كبيرٍ كانت تحتفظ فيه بالأشياء القديمة، وعثرَتْ على كتابٍ مصفرِّ الأوراق ومنزوع الغلاف، كان خالي قد نسي أن يأخذه مع مجموعة كتبه حين غادر المنزل قبل سنواتٍ من ذلك، وناولتني إيَّاه دون أن تنظر إليَّ. ذلك الكتاب كان رواية "زوربا اليوناني" لنيكوس كازانتزاكيس، ومن غرائب الصُّدَف أنَّ موضوعة الرِّواية هي العلاقة بين رجلٍ غارقٍ في الكتب (باسيل) ورجلٍ أمِّيٍّ لا يعترف بالكتب (زوربا) يلتقيان مصادفةً. يمكنني القول، إذًا، إنَّ جدَّتي الأمِّيَّة وزوربا الأمِّيَّ اللذَين لا يعترفان بالكتب هما من أخذ بيدي إلى عالم الكتب.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب الأكثر تأثيرًا في حياتك؟

أعتقد أنَّ الكتب الأكثر تأثيرًا في حياة المرء هي الكتب التي يقرأها في سنٍّ مبكرةٍ حين تكون شخصيَّته ما تزال في طور التَّشكُّل، ذلك أنَّها في تلك المرحلة تشارك فطريًّا في عمليَّة التَّشكُّل تلك دون أن تتحكَّم في ذلك أيُّ إكراهاتٍ تفرضها قيمُ وعواطفُ الشَّخصيَّة المكتسبة. في سنٍّ مبكرةٍ، وفي وقتٍ كان من المفترض أنَّني ألعب مع أترابي ألعابَهم الشَّعبيَّة، كنت أقرأ "الكوميديا الإلهيَّة" لدانتي وأعمال دوستويفسكي وكولن ولسون وألبرت كامو، دون أن أنتبه آنذاك إلى أنَّ تلك الكتب كانت تغذِّي عندي بذرة العزلة والتَّمرُّد واللاانتماء، إلى أن صارت تلك البذرة شجرةً هائلةً لا أستطيع التَّمييز بين نسغها ودمي، أو بين جذورها وشراييني. في فترةٍ لاحقةٍ ستبدأ مرحلة تعرُّفي بكتب التُّراث الصُّوفيِّ وبأشعار رامبو ولوركا ونيرودا، والتي ستُكمل تكوينَ تلك الشَّجرة، ولكن بلبلابٍ سامٍّ يتسلَّقها ويتشابك بها، هو شاربًا من عصارتها، وهي شاربةً من سُمِّه.

  • من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟

هذا ما يمكن أن أسمِّيه بالسُّؤال الذي لا توجد إجابةٌ صحيحةٌ عليه. فالكاتب المفضَّل متحوِّلٌ وليس ثابتًا، وهو لا يكفُّ عن التَّحوُّل ما دام فِعل القراءة قائمًا. القارئ الوحيد الذي قد يملك إجابةً على هذا السُّؤال، هو قارئٌ لن يقرأ بعد الآن، قارئٌ يلفظ أنفاسه الأخيرة، بالمعنى الحرفيِّ لا المجازيِّ للعبارة. القارئ المحتضر، باستذكارٍ أخيرٍ لكلِّ ما قرأ في حياته، هو الوحيد الذي يملك الحقَّ في إخبارنا مَن (كان) كاتبه المفضَّل، وأيُّ الكتب (كانت) كتبه المفضَّلة. لو كان السُّؤال بصيغةٍ أخرى: "لمن تحبُّ أن تقرأ؟"، مثلًا، لكانت الإجابة أكثر سهولةً. ولكن، حتَّى هنا، لا يمكنني أن أسمِّي كاتبًا واحدًا فحسب. أحبُّ، مثلًا، جميع الشُّعراء الملعونين Les Poétes Maudits، الذين كانت حياتهم خارج أو ضدَّ المجتمع. في إيطاليا كان هؤلاء جزءًا من حركة "الصَّعلكة" La Scapigliatura، ويمكن أن أذكر منهم: إِميليو براغا، وجوفانِّي كاميرانا، وكارلو دوسِّي. أحبُّ، كذلك جميع الشُّعراء المنتحرين: سيرغي يسينين، أمِليا روسِّللي، باول تسيلان، سيلفيا بلاث، تشِزارِهْ بافيزِه، وغيرهم. من المفكِّرين والفلاسفة أحبُّ هيدجر وسيوران وباشلار، الأوَّل لجعله الفلسفة قارئةً للشِّعر، والثَّاني لجعله الفلسفة كاتبةً لها، والثَّالث لجعله الفلسفة والشِّعر شيئًا واحدًا.

  • هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟

ملخَّصات، لا. الملاحظات أكتبها على دفتر ملاحظاتٍ جانبيٍّ في أثناء عملي على التَّرجمة أو التَّأليف، لما يقتضيه هذا العمل من بحثٍ في المراجع والمعاجم والتَّراجم والببليوجرافيَّات، ومن تبويبٍ وترتيبٍ للمعلومات. هناك مَن يضع ملاحظاتٍ أو سطورًا على بعض فقرات الكتاب المقروء نفسه. إلى الآن لم أجرؤ على فعل ذلك، وما أزال أمسك بالكتاب برهبةٍ كرهبة مَن يمسك بشيءٍ مقدَّسٍ ويهاب أن يلطِّخه أو يُفسد فيه شيئًا، مع أنَّني، في الوقت نفسه، أجد لذَّةً لا توصف حين أحصل على كتابٍ قديمٍ وأعثر بين صفحاته على مثل تلك الخربشات والملاحظات. في هذه الحالة، لا تبدو لي تلك الخربشات تدنيسًا، بل رموزًا ونقوشًا على رقيمٍ مقدَّس.

  • هل تغيَّرت علاقتك بالكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

ليس كثيرًا. ما أزال أجد أنَّ اللَّذَّة التي تقدِّمها قراءة الكتاب الإلكترونيِّ لذَّةٌ كاذبة، وقد كتبتُ ذاتَ مرَّةٍ: "القراءةُ فعلُ حُبٍّ. حين تقرأ في كتابٍ ورقيٍّ، فأنتَ لا تقرأ، بل تتَّحد؛ تتَّحد مع الشَّجرة التي منها كان الكتاب، ومع العناصر التي منها كانت الشَّجرة، ومع المرأة التي منها كلُّ عنصرٍ. الكتابُ الإلكترونيُّ لا يقدِّم لذَّةً أكبر من تلك التي تقدِّمُها دُمى الجنس المطَّاطيَّة". أمَّا الكتب الصَّوتيَّة، فلم أجرِّبها بعد، ولكنِّي أتخيَّل أنَّ لها لذَّةً ما، لذَّةً نابعةً من سحر الاستماع، ومن سحر استعادة لحظات طفولتنا المفقودة، حين كنَّا نستلقي لننام وصوتٌ رقيقٌ يقرأ لنا.

  • حدِّثنا عن مكتبتك؟

إنَّها شكلٌ مصغَّرٌ للفوضى الكونيَّة (الكايوس)، فهي وإن بدَتْ شَواشًا من النَّاحية الظَّاهريَّة، إلَّا أنَّ هناك نظامًا خفيًّا مُضمَرًا في طواياها. ولكن يبدو لي أنَّ هذا هو الطَّبيعيُّ، إذْ لطالما اعتقدتُ أنَّ الكتب كائناتٌ حيَّةٌ، لها سلوكها وعلاقاتها وموائلها الخاصَّة، وهي كسائر الكائنات الحيَّة تتنقَّل وتهاجر وتتكيَّف وتُحِبُّ وتُحَبُّ وتفترِسُ وتُفترَسُ وتخوض معركة البقاء الأخيرة. في بيتي أترك هذه الكائنات تتحرَّك على هواها، وتختار موائلها ومجاثمها وأعشاشها أنَّى شاءت.

  • ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟

أقرأ "جنوح الفلاسفة الشِّعريُّ" لكريستيان دوميه؛ وإذا انطلقنا من قول إيتالو كالفينو: "إنَّ التَّرجمة هي الشَّكل الصَّحيح للقراءة"، أمكنني أن أضيف الكتاب الذي أترجمه الآن، وهو "الزَّمن الحسِّيُّ" لجورجيو فاستا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة بطرس المعرّي

مكتبة كريمة أحداد