13-فبراير-2024
لوحة لـ لؤي كيالي/ سوريا

لوحة لـ لؤي كيالي/ سوريا

تخامرني دومًا رغبة بالانتقال. ما إن أجد نفسي في مكان ما حتى تنزع روحي للمغادرة وتتوق للابتعاد.

لم يكن هذا ديدنًا بالنسبة لي من قبل، ولا درجت عليه كعادة مستحكمة في النفس، لكنه تنامى، رويدًا رويدًا، بعد أن بدأت أسلم أن غربتي القسرية عن بلادي لن تنتهي.

ورغبة الانتقال أو المغادرة أو الهروب، سمها كما شئت، تتجاوز مسألة المكان فيزيائيًا. فقد فاجأتُ ذاتي مرارًا بينما أطالع مقالة أو أقرأ رواية، وجدتني تائهًا في مكان ما وشاردًا عن الموضوع المكتوب، بينما تتنقل عيناي على الكلمات بشكل آلي، فأعيد القراءة مجددًا لنفس المقطع مرة تلو المرة كي أجبر نفسي على التركيز.

كل ذلك كان يحدث بشكل يبدو طبيعيًا، لكنه تحول لأمر غريب عندما صار يحدث في النوم أيضًا، ما أن يبدأ حلم بالانسياب حتى يتدخل عقل داخلي ويأمرني بتغييره ويخبرني بأنني أحلم، فاستيقظ مرهقًا، ويغلبني التعب فأعاود الرقاد متوجسًا من تكرار الأمر.

فكرت في الأسباب كثيرًا، ثم خلصت إلى أن السبب الرئيسي يرجع للغربة والوحدة التي أطبقت على صدري منذ سنوات، ثم عزوت الأسباب لشدة الضغوط والآلام التي تسببها لي نشرات الأخبار التي أسمعها يوميًا، والتي مهما تنوعت لكنها تصب حتمًا في شرح مدى فداحة انحدار حال البلاد العربية في زمننا هذا.

في بيوتنا القديمة التي هُجّرنا منها غصبًا، كان كل غرض يحتل مكانه الطبيعي وكأنه محفور له، أو كأن ذلك الغرض قد صمم أساسًا ليكون في ذلك المكان بالضبط

أردفت لتلك العوامل لاحقًا حنقي وغضبي الشديد من الانحطاط الإعلامي والرداءة الأخلاقية التي تنتشر كالنار في الهشيم في مواقع التواصل الاجتماعي، ورصدت المزيد من الأمور التي تفسد المزاج وتعكر صفوه، كأن تتلقى رسالة غاضبة من أحد لا تعرفه، أو مطالبة باشتراك في حزب تجهله، أو اتصالًا عبر موقع تواصل من شخص تجهله، أو ضياع ورقة ثبوتية مهمة، أو مرض عابر لم تحسب له حسابًا.

غير أن خاطرًا مر ببالي بينما كنت أحاول تشخيص مشكلتي علني أجد حلًا لما بات مرهقًا بالنسبة لي، ذلك الخاطر يتعلق ببيتي الذي عشت به طفولتي في مدينتي حمص، واكتشفت فورًا بأن كل هروب أو انتقال سواء في الواقع أو الحلم، كان نزوعًا للعودة إلى ذلك البيت، والتمدد بجانب المدفأة المازوتية، أو التسمر أمام شاشة التلفاز الصغيرة التي كانت تشغل نفس القرنة منذ وصلت لذلك المنزل قبل سنوات كثيرة.

في بيوتنا القديمة التي هُجّرنا منها غصبًا، كان كل غرض يحتل مكانه الطبيعي وكأنه محفور له، أو كأن ذلك الغرض قد صمم أساسًا ليكون هناك، فأنت تعرف تمامًا موضع السكر والشاي، موضع الأدوات الطبية، موضع الطناجر والمقالي، موضع الأغطية، ونادرًا ما يتم تغيير تلك المواضع، ربما يحدث ذلك مؤقتًا بغية التنظيف، أو استبدال القديم بجديد.

البيت نفسه، هو كل شيء بالنسبة للعائلة، وهو غاية وهدف كل رب أسرة، فعندما يوجد البيت ويصبح ملكًا له فقد حاز من الدنيا أعظم ما فيها، ولذلك فمن النادر أن يباع أو يستبدل كما يحدث هنا بكل سهولة.

لا أقول بأن ذلك لا يحدث، لكنه صعب ومرير، فأنت ببنائك منزلك في منطقة ما، تنتسب له، وتصبح ابن ذلك الحي، والحي يساهم بتشكيل وعيك وهويتك، ويخلق تفاعلًا حيويًا بين روحك وبين المكان، فتصبح رائحته محببة لنفسك، وعيوبه عيوب الابن المريض، ونقائصه نقائص الحبيب.

بعد فقدان ذلك المنزل وهجران ذاك الحي يصبح الاستقرار الذي كان نعمة في السابق أمرًا مستحيلًا، تنشد روحك الخلاص بالهروب والتنقل والبحث دونما جدوى.

قبل سنوات عملت على فيلم وثائقي، قابلت رجلًا نازحًا من الجولان السوري، فأراني مفتاح منزله، كان صدئًا وضخمًا، احتفظ به كأنه كنز، ولم أفهم حينها شعور ذلك الرجل الذي كان قد استقر في مخيم اليرموك بدمشق.

ربما كان اختياره للمخيم مقصودًا، فأن تختار مكانًا أغلب ساكنيه قد أُبعدوا عن بيوتهم عنوة وقسرًا فيه نوع من مواساة الذات.

مفاتيح البيوت المفقودة، المنازل التي تدمر والتي يجبر أهلها على تركها، تتحول إلى مفاتيح للقلوب، ولا يفك صدأها سوى الدم الذي يجري في العروق.

حدث ذلك دائمًا، في الجولان التي سلبت من سوريا، في فلسطين التي احتلت واستوطنت، في بلاد لا نعرفها كبلاد الشراكس، أو الأرمن.

خبيرة ومهتمة إسبانية تعود بأصولها للموريسكيين، قالت في بودكاست شاهدته قبل مدة: هنالك أقفال ما زالت موجودة في مدن إسبانية سكنها الموريسكيون قبل طردهم، ولا تستغرب إن وجدت بأن البعض من أحفادهم ممن بنى مدينة شيفشاون في المغرب يحتفظون بمفاتيح لها دون أن يعلموا ذلك.