01-يوليو-2022
ظلال للاجئين فارين من أوكرانيا

ظلال للاجئين فارين من أوكرانيا

تصطكّ اللّغات يعتركُ الجدلُ، وتتباعد الحقب ويظلّ المنفى سؤالًا يحومُ مثل نجم قطبي في سماء صيف، أقرب الى عينين من شارع في وطن معتقل، وأكثر ألفة إلى الروح من شِعاب وشعوب استلبت في غزوات وحروب.

‎والمنفى مفردة لها جسدُ ريح، لا مكان، لا زمن لا حدود، لا خرائط، لا قاموس، لا لغة ولا حكمة تحتويها. لها أصداءٌ هنا وظلالٌ هناك. هي تجربة لذا ومعرفة لذاك قائمة في كلّ عصر، قارة مأهولة منذ الخليقة. سكّانها يشتركون ويعيشون في وحشة غريبة، الأحياء منهم والأموات.

المنفى مفردة لها جسدُ ريح، لا مكان، لا زمن لا حدود، لا خرائط، لا قاموس، لا لغة ولا حكمة تحتويها. لها أصداءٌ هنا وظلالٌ هناك

 

‎أحيانًا يسبر غورها شاعر بجملة أو شطر بيت، يستوقفكَ مثل فُجاءةٍ تتعرّى لتختزلَ بصورة أو عبارة مسافات شاسعة من الورق والاحبار التي كانت تسعى لإدراك مكنون وأعماق هذه الكلمة التي بدأت مع الخلق، مع الوجود، مع الحياة: المنفى.

من هذه التجليات شطر - ولا أقول بيتًا - لحبيب بن أوس الطائي المعروف بـ"أبو تمّام" يقول فيه: "لا أنتَ أنتَ ولا الديارُ ديارُ".

‎ببساطة وبسرعة مضيئتين يدرك حبيب بن أوس الشاعر العباسي أعماقًا دفينة ليكشف عن صورة للنفي وللغربة، طالما حاول الشعراء والمبدعون، السياسيون والمثقفون والناس جميعًا كلّ طريقته وحسب ظروف حياته التّعبير عنها وملامسة جوهرها.

‎هي اللحظة التي تدرك فيها أنك لم تعد أنتَ وأنّ الدّيار التي جئت منها، أو أُقصيت عنها هي الأخرى لم تعد تلك الديار. هل هذا هو منفى حبيب بن أوس؟

‎هلع أمام مرآة صيرورة الذات والأشياء بين الزمان والمكان. إعصار لا ينفك يهشّم شرفات الدّاخل، ومدارات الخارج وزجاج الاحتمالات في غربة لا حدّ ولا قرار. فبعد أن انتقلت الأنا لتتجسّد بصيغة أخرى وبعد أن خَلعَ الخارجُ - المكان كلّ ما فيه ومن وفيه، وارتدى برنصًا وظلالًا وأعمدة ومرايا أخرى، سقطت بادئ ذي بَدءٍ فكرة العودة واندحر مضمونها. تهشم منطقها، وذابت نقطة الانطلاق.

ثمّ إنّ شارة البدء نفسها انطلقت وبدأت هي الأخرى مسارًا وسيرورة. كما أنّ العلة ذاتها غيّرت جوهر عقدتها ومحور اعتلالها. فلا عودة لنقطة غادرت هي موقعها، وكلّ لقاء هو بدء. أما الذاكرة فتشبه صورتها، والحالة هذه، ليلًا مثقبًا بالنجوم والعواء البعيد. لتغتسل البوصلة بأمطار الجهات إذًا ولتول وجهك أي صوب.

‎لا أعرف إذا كان أبو تمّام قد قرأ هيرقليطس آنذاك الذي عبّر عن هذا المعنى، بطريقته، عندما قال: أنت لا تدخل النهر مرّتين. فالنهر يجري في أرضه وحياتك تجري في جسدك. كل يمضي إلى مصبّه ممتلئًا بطميه وأعشابه، بأمواجه وأحجاره وغرقاه. ولهذا فإن لحظة الالتقاء بينك والنهر هي لحظة تقاطع نهرين: عمودي فيك وأفقي على الأرض. ومن هنا فإن لحظة اللقاء بينكما - وأنت تدخل النهر - لن تتكرر إلا مرة واحدة لأنكما ستختلفان في كلّ مرة فلا أنت ستكون كما أنت ولا النهر سيكون كما هو في اللقاء الأول بينكما.

سيد وأرقط وعرفاء "ذئب ونمر وزراّفة" هم الأهل الذي اختارهم الشنفرى ليستعيض بهم عن ذويه وأبناء قبيلته

 

‎وبهذا المعنى تنتفي فلسفيًا فكرة العودة ولا يكون لها أي وجود، وما نسمّيه عودة ليس إلا مكابرة، أو هو اعتداد بنفوذ مصادر. ادعاء إنسانيّ لتجاوز منطق الأشياء المضاد له. إنّنا لا نملك إلا أن نجري أو نسّاقط كالأحجار من السّفوح ولا نفكر إلاّ بإدراك سقف الهاوية حيث نستريح.

‎مضى ربع قرن منذ أن غادرت وطنًا وكيانًا شخصيًا كانا لي ولم أعد إليهما، فقد هاجر كلانا، الوطن وأنا ومضينا باتجاهين متباعدين، بقينا نحدّق ببعض مثل حوار نجمتين.

أعود لسعدي حين يقول:

"مرّةً سألوا نجمتين

لمَ لا تصبحان نجمةً واحدة؟

مرّةً سألوا نجمةً واحدة

لمَ لا تُصبحين

نجمتين..؟".

تلك هي صرخة المنفى وارتدادها مثل الصّدى الذي يعود باتجاه معاكس. أنت في المنفى نجمة تنشطر إلى نجمتين واحدة في الماضي وأخرى في الحاضر وأنت في الوطن بعد العودة نجمتان تحاولان أن تتّحدا في واحدة. وفي الحالتين استحالة التحقق وأنت بينهما مثل حبل يجر سفينة على النهر عكس التيار.

‎ربع قرن ونحن على هذه الحال حتى صار الحنين نوعًا من طفولة مؤبدة.

‎"الغياب مهما عمّر يبقى جنينًا" قد كتبت ذلك يومًا، لكن فكرة المنفى هي الأخرى قد عمّرت في ثقافات وإبداع شعوب الأرض، تنوّعت خلالها صورها ومفاهيمها وحتى مضمونها.

‎لكنّى لم أجد أغرب من صورة "المنفى" البدويّ حيث الوطن صحراء لا حدود ولا دول ولا سلطة بالمعنى السّياسي للكلمة. لكن الشنفرى في لاميّته الرائعة يصوّر لنا ذلك بمدلول جديد:

"ولي دونكم أهلون سيد عملّس

‎وأرقط زهلول وعرفاء جيأل

‎هم الأهل لا مستودع السر ذائع

‎لديهم ولا الجاني بما جاء يقتل".

‎سيد وأرقط وعرفاء "ذئب ونمر وزراّفة" هم الأهل الذي اختارهم الشنفرى ليستعيض بهم عن ذويه وأبناء قبيلته. إنهم معشر الحيوان، لكي لا نستعمل مصطلحًا اجتماعيًا صادمًا فنقول "المجتمع الحيواني"، البديل "الاجتماعي" الوحيد في حياة الصحراء، خصوصًا عندما تتصحر العلاقات بين بني الإنسان لتكونَ الصحراء الحقيقية والغربة الأقسى، عندئذ يولد منفى من طراز آخر، لا منفى الأوطان ولا منفى الدول والسياسات ولا اللغات إنما هي غربة بين الإنسان ومرآته في نفس الحدود الزمكانية، ولهذا فهي تنزع باتجاه كيانات حية أخرى غير بشرية.

‎يذهب الشنفري في لاميّته الى أبعد من الاختيار لإلفة وانتماء "هم الأهل" حيواني فيذكر لنا الأسباب التي جعلته يختار هذه الأخوّة والقرابة الحيوانية ليفضلها على انتماءه لمجتمع البشر، فهو يقول "هم الأهل لا مستودع السر ذائع لديهم". إذًا انهم أهل يكتمون الأسرار ولا يفشونها كعادة بني الإنسان وتلك، لعمري، فضيلة لا يستهان بها. ثم يمضي الشنفري إلى أبعد من ذلك في محاولة لإقناعنا باختياره فيقول: "ولا الجاني بما جاء يقتل" أو "يخذلُ" حسب بعض الروايات.

‎ها هي حضارة الحيوان إذًا التي لم يصلها البشر بعد. على الأقل في عصره. فقد اعتاد أبناء آدم على الانتقام والثأر والقصاص من الجُناة، وتلك مفخرة عندهم وهم يعتزّون بأنّ أولى قوانينهم وتشريعاتهم كانت تقول "العين بالعين والسنّ بالسن" و"بشر القاتل بالقتل".

ليت صوت الشنفري كان حاضرًا في لغة بودلير ليذكّرهم بأن الواقع هو العكس وان عدم اغتيال الجناة هو سليقة حيوانية وليس العكس

 

لكن الشنفري جاء وببساطة واعتيادية ليقلب المعادلة فهو يعترض كليًا على هذا المنطق الإنساني الذي "يقتل" و"يقتصّ" من الجناة، وما هذا إلا أمر شائن في نظره ولا يريد شاعرنا أن ينتمي اليه، ولهذا اختار هذا الصعلوك البدوي بني الحيوان لأنهم لا يفشون الأسرار ولا يقتلون أو يخذلون الجُناة. فلا يوجد في بني الحيوان جلادون وحكام بالإعدام.

‎كم كنت أتمنى لو قرأ فرنسوا ميتران، الرئيس الفرنسي الراحل ووزيره للعدل روبرت بادنتير أبيات الشنفرى هذه، فقد صارع، هذان الزعيمان السياسيان الرأي العام الفرنسي طيلة عامين من أجل اقناع برلمان الثورة الفرنسية بعد قرنين من تأسيسه بضرورة إبطال عقوبة الإعدام والتخلي عن المقصلة الى الأبد. وكانت حججهما أن "قتل الجناة" منطق غير إنساني متوحش وبربري. وأن حضارة القرن العشرين شيء آخر غير هذه القسوة البربرية. ليت صوت الشنفري كان حاضرًا في لغة بودلير ليذكّرهم بأن الواقع هو العكس وان عدم اغتيال الجناة هو سليقة حيوانية وليس العكس. وإذا كان الإنسان قد أدرك بعد ألوف من السنوات الدامية من وجوده هذه الفضيلة فإنه يستعير من الحيوان ملامح انسانيته الجديدة.