09-أكتوبر-2019

من المعرض

لا نعرف أين ينشأ الرسم عند شوقي يوسف. ولكنّ انطباعًا سريعًا وثابتًا يُخبرنا بأنّ اللوحة عند الفنّان اللبنانيّ هي حصيلة ممارساتٍ فظّة، لا تتعرف بالسهولة، وترفضها، كما وتحتقر الوضوح أيضًا، وتنشغل على الدوام بالبحث عن أرضيةٍ وعرة تنشأ فيها. قد تكون هواجس، وقد تكون أيضًا أمزجةً قاتمة، أو شحنات غضبٍ داخليٍّ. المكان نفسه، على أي حال، لا يبدو شيئًا مهمًّا عنده، وقد يختلف أيضًا بين عملٍ وآخر. المهم عندهُ أن يكون المكان خارجًا وبعيدًا عن أي رخاوةٍ أو رقّة، ومتورّطًا حتّى أذنيه بالفظاظة التي ستتحوّل عندهُ إلى أسلوبٍ تعبيري، يُتيح للمكان/ المنشأ مرافقة الفنّان اللبنانيّ أثناء الرسم، والتدخّل في صياغة مزاجه أيضًا، وخياراته، وفورانات غضبه الداخليّ باستمرار، إلى نراها، اللوحة، بشكلها الأخير.

اللوحة لدى الفنان اللبناني شوقي يوسف عبارة عن مساحةٍ للتنكيل بشخصها

اقرأ/ي أيضًا: معرض جنان مكي باشو.. الهجرة التي لن تنتهي

انطباع كهذا يجعل من لوحات معرضه الجديد "تسعة صباحات وثلاث عشر ليلة سعيدة" الذي يستضيفه غاليري "أجيال" في بيروت، تتّخذ طابعًا عدائيًا وصادمًا. ولكنّنا، في المقابل، لن نستطيع إغفال فكرة أنّ طابعًا كهذا أسّسهُ شوقي يوسف على بنية متعدّدة العناصر، ولكنّها غالبًا تظهرُ كبنية عاطفية أو انفعالية. ولن نستطيع أيضًا تجاوز فكرة أنّ مزج هذه المشاعر معًا، أي الصدمة والعداء والعاطفة والانفعال، ووضعها في لوحة وحدة؛ سوف ينتج عنها زعزعة البنية الخارجية المتحجّرة، وخلخلة المفاهيم الثابتة عن الجسد البشريّ أيضًا. الجسد الذي لن تنجو منه غير سنتيمترات قليلة، إن وُجدت أساسًا، من التنكيل والتشويه الذي يمارسه شوقي يوسف بحقّه. سنتيمترات تحوي بدورها عنفًا مُبطّنًا، وتُشير باستمرارٍ إلى تشوّه أو تشوّهاتٍ ما في موضعٍ آخر من الجسد، كنتيجة لاستبدال القساوة نفسها بالفظاظة التي تُنتج لنا مسوخًا بشرية مشروطة بحضورٍ غامضٍ وممحوّ ومشوّه. بالإضافة إلى الابتعاد قدر المستطاع عن الرخاوة.

اللوحة في المعرض الذي أغلق أبوابه قبل أيامٍ قليلة من الآن؛ عبارة عن مساحةٍ للتنكيل بشخصها الذي يعرّيه شوقي يوسف، ويُعيد خلقه وفقًا لقواعد المكان الذي تنشأ لوحاته فيه. إنّها، عدا عن كونها إعادة تشكيلٍ للجسد في مكانٍ ما، محاولة لتجويف لحمه بهدف إحداث ثغراتٍ يلجُ عبرها إلى عوالمه الداخلية، حيث سيعمل على نبش جروحٍ تبعث حُزنًا باطنيًا سيكون تأثيره واضحًا لا على ملامح الجسد، وإنّما على حركاته، إذ لا ملامح واضحة لشخوصه إطلاقًا؛ جسد مُمدَّد على طاولة يلتصق فيها نصفهُ العلويّ، بينما نرى الجزء السفلي منه مرفوعًا، لا تصلهُ بالطاولة غير أقدامه التي تُظهر شكلًا هرميًا نراهُ عادةً في الأفلام أو حتّى في الواقع لأشخاص يختبرون ألمًا قاسيًا يدفعهم، دون قصد، لتكوين هذا الشكل الهرميّ. في لوحةٍ أخرى، يتكرّر المشهد نفسه، غير أنّ شخصها، أي اللوحة، يضع يديه حول رأسه كتأكيدٍ على انطباعنا بأنّها تختبرُ ألمًا قاسيًا، وحزنًا باطنيًا عميقًا وعظيمًا.

في معرض شوقي يوسف الجسد والطاولة عناصر أساسية لا تخرج إطلاقًا من إطار اللوحة. والمُتغيّر الوحيد فيها هو مدى وضوح الجسد فوقها

اقرأ/ي أيضًا: معرض أحمد قليج.. الهامش رأسمال بصريّ

تتكرّر المشاهد نفسها تقريبًا في بقية أعمال "تسعة صباحات وثلاث عشر ليلة سعيدة". الجسد والطاولة عناصر أساسية لا تخرج إطلاقًا من إطار اللوحة. والمُتغيّر الوحيد فيها هو مدى وضوح الجسد فوقها، أي الطاولة. ما معناهُ أنّنا سنتحاج أمام بعض أعمال يوسف إلى وقتٍ أكثر لاكتشاف مكان الجسد وحدوده مقارنةً بأعمالٍ أخرى يكون فيها واضحًا. يُحيلنا هذا التمويه إلى فكرة أنّ هذه الأجساد وعبر عملية اختفائها التدريجي من اللوحات، تذوب على الطاولة التي تحضرُ هنا لتدلّ على الجسد الذي اختفى فقط. إنّها تركة الجسد الذي يأنّ تحت وطأة مزاج الفنّان اللبنانيّ، والأمكنة الوعرة التي يأتي باللوحة منها أيضًا. هكذا، يُراود المُتفرّج أمام بعض اللوحات أنّ هناك رائحة دمٍ لم يمضي وقت طويل على تخثّره. وأنّ عملية التنكيل هذه والتشويه التي تطال شخصيات اللوحة، من شأنها أن تُحيل المعرض، مجازيًا، إلى مسلخٍ بشريٍّ يُدار بالأمزجةِ القاتمة والغضب الداخلي أيضًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الفنان والناشط الصيني آي واي واي يغادر ألمانيا ولا يثق ببريطانيا

5 من روّاد التشكيل في مصر