03-مارس-2017

مسلسل تسمم التلاميذ متواصل في مصر في ظل صمت المسؤولين (ريتشارد باكر/Getty)

الثلاثاء الماضي، أصيب العشرات من طلاب مدارس مركز أبو حماد في محافظة الشرقية، شرق مصر، بحالات تسمم غذائي بعد تناولهم وجبات البسكويت المدرسي. وبحسب تقارير صحفية، وصل عدد المصابين إلى نحو 45 تلميذًا وتلميذة أصيبوا بحالة إعياء وقيء ومغص جماعي وتم نقلهم لمستشفي أبو حمّاد المركزي. بعد ساعات قليلة من انتشار الخبر، حرصت وزارة التربية والتعليم على نفي الواقعة على لسان حسام أبو ساطي، وكيل وزارة الصحة بالشرقية والذي قال أن التلاميذ يدَّعون المغص، وفقًا لتصريحات صحفية أدلى بها لجريدة "الدستور".

حالات تسمم الطلاب صارت أشبه بمسلسل تجري وقائعه على رؤوس الإشهاد دون أن تقوم وزارة التربية المصرية بأي شيء من شأنه إيقاف الأمر

في اليوم التالي، استقبل مستشفى ملوي العام بمحافظة المنيا، جنوب مصر 185 من تلاميذ مدرستي الشيخ شبيكة ونجع العقولة، مصابين بحالات قيء إثر تناولهم وجبة مدرسية. وقررت النيابة الإدارية فتح تحقيقات موسعة في الواقعة، وقال مصدر قضائي بالنيابة إن التحقيقات ستجرى مع المسؤولين عن الوجبات الغذائية والشركات والمصانع التي توردها وتنتجها.

اقرأ/ي أيضًا: المياه المعبأة في لبنان.. المواطن يشرب بلا رقابة

ربما هي سخرية القدر التي شاءت أن تأتي الواقعتين في يومين متتاليين لتكشف عن حجم المأساة التي وصل إليها حال التعليم في مصر، بعيدًا عن تصريحات المسؤولين ومسكِّنات الخطط البديلة، فحالات تسمم الطلاب صارت أشبه بمسلسل موسمي تجري وقائعه على رؤوس الأشهاد دون أن تقوم وزارة التربية والتعليم بأي شيء من شأنه إيقاف تلك المهزلة الكارثية.

فقبل 3 أشهر تقريبًا، تعرّض 138 تلميذًا بالبحيرة للتسمم الغذائي؛ بسبب وجبة التغذية التي تقدمها لهم الوزارة، ولم يقم أي مسؤول بأى إجراء، اللهم إلا أنهم منعوا تسليم الطلاب تلك الوجبات، والعام الماضي تسمم 7 تلاميذ بالفيوم، ومن قبله 108 آخرون في الفيوم أيضًا، و 20 طالبة في سوهاج في آذار/مارس 2015، وأكثر من 400 حالة تسمم في العام الدراسي 2014 في أكثر من محافظة.

ومعنى ذلك، أن مشكلة تسمم الأطفال بسبب التغذية المدرسية لا تتوقف عند محافظة واحدة، فالنظام في أغلب المحافظات واحد، والمعايير التي تضعها الوزارات المعنية أيضًا واحدة، وكذلك في عدم التنفيذ وهو ما يجعلنا نقول دون تردد إن الوجبات الغذائية المقدمة للطلاب قد تكون سببًا في نهاية حياة تلميذ، كل ذنبه أنه فرح بطعام مدرسته وتناوله.

صحيح إلى الآن كل الحالات المرضية تلقت العلاج ولم تحدث حالة وفاة، ولكن ألا يدعونا هذا إلى أن ندق ناقوس الخطر قبل أن تقع الفاجعة، أم أن المسؤولين في مصر لا يتحركون إلا بعد وقوع المصيبة وموت أحد؟

جريمة الوزارة

أسوأ الخيانات أن يأتيك الخطر من المسؤول عن أمنك وحمايتك، وأن يأتيك الجهل من مكان العلم. وللأسف الشديد، أصبحت وزارة التربية والتعليم مصدر خطر على أمن وسلامة هذا المجتمع، فهي تنشر الجهل، كما أن التلاميذ مهددون بالموت كل يوم بعد أكلهم وجبة التغذية المدرسية. يُفترض بالوزارة أن تقوم بإعداد الطلاب للمستقبل، فهل قامت بهذا الدور أم تقوم بمطاردتهم ومضايقتهم حتى هربوا منها واستكانت أنفسهم إلى أن يتلقوا التعليم في الدكاكين والمخازن وتحت السلالم؟.

عندما يفتقد التعليم أي مقوِّم من مقومات العملية التعليمية السليمة ولا يُنتج طالبًا متعلمًا ولا فاهمًا ولا مبتكرًا وكل ما يملكه هو قدرته على تكرار ما حفظه لا أكثر ولا أقل؛ فهذه هي جريمة وزارة التربية والتعليم التي لا تُغتفر، والتي يجب محاسبة المسؤولين عنها فورًا، فالوزير، الحالي والسابق والأسبق، ومساعدوه الذين يحصلون على 900 يوم مكافأة امتحانات خلال العام الدراسي الواحد ولا يقدّمون أي جهد لتقدم العملية التعليمية هم المسؤولون عن هذا التدهور وعن هروب الطلاب ومعهم أولياء الأمور إلى المراكز التعليمية والدروس الخصوصية، فلم يقدموا فكرة واحدة يمكن بها أن يتطور التعليم في مصر، بل هم من فشل إلى فشل أكبر، ومن تسريب الامتحانات إلى تسريب الطلاب أنفسهم من المدارس.

إن استمرار العملية التعليمية بطريقتها القديمة وقوانينها هي قمة فشل هذه الوزارة، فقد جعلت المدارس والمعلمين في وادٍ والطلاب في وادٍ آخر، وهذا التدهور في كثير من مراحل التعليم، حتى في المرحلة الابتدائية التي يتعرض طلابها لخطر الموت، بسبب تسيّب وزارة التربية والتعليم، وإهمال المسؤولين محاسبة المتسببين في عمليات التسمم الغذائي الذي يتعرَّض له هؤلاء الطلاب.

والأفدح أن معالي الوزير لا يسمع له أحد حِسًّا وأغلب الظن أنه لن يُقدم على البحث في هذه المأساة التى تؤرِّق حياة كثير من أولياء الأمور، فمعالي الوزير مشغول دائمًا بالمؤتمرات الصحفية واللقاءات التليفزيونية والصور في وسائل الإعلام من أجل أن يظلّ في دائرة الضوء، وبالتالي لا وقت لدى معاليه لأن يتابع هذه المشكلة. ويبدو أن صحة التلاميذ الأطفال أمر تافه لا يعيره الوزير أي اهتمام، في ظل حرصه على إلغاء مجانية التعليم والتوجه نحو خصخصته وجعله حكرًا على الأغنياء.

يفتقد التعليم في مصر أي مقوِّم من مقومات العملية التعليمية السليمة ولا يُنتج طالبًا متعلمًا ولا فاهمًا ولا مبتكرًا

اقرأ/ي أيضًا: "قصة القمح المسرطن".. الحكومة تقتل الشعب بالخبز!

فتِّش عن الفساد

الوجبة المدرسية في مصر ليست ترفًا أو رفاهية، بل ضرورة لحل مشاكل التسرب من التعليم وعلاج سوء التغذية ومساعدة الأسر الفقيرة. ولذلك رصدت لها الدولة من ميزانيتها ملايين الجنيهات بلغت خلال العام الدراسي الماضي، 791 مليون جنيه، لكن ما شهدته الأعوام الماضية من سقوط لعشرات التلاميذ من تسمم بسبب الوجبة المدرسية حوَّل الوجبة المدرسية التي كانت حلمًا لملايين من التلاميذ إلى كابوس، وقد تتحول إلى أداة قتل يذهب ضحيتها العشرات كل عام دراسي فى غياب شبه تام للرقابة الصحية والتعليمية على رافد من أهم الروافد الأساسية لبناء جيل سليم البنية، ولا تزال مسؤولية الوجبة الغذائية وسلامتها تائهة ما بين 4 جهات، وهي وزارات التربية والتعليم والصحة والتموين والزراعة.

والحلّ ليس في إلغاء التغذية المدرسية، كما قرّروا في البحيرة، فمعلوم أن تقديم الوجبات والأغذية الخفيفة الصحية في المدارس يُحسِّن صحة الطلاب ويساعدهم على التركيز والاستمتاع بالعملية التعليمية، لكن في مصر وفي وزارة التربية والتعليم بمكن أن تتحول هذه الوجبة إلى أداة تقتل الطالب.

في الدول النائية يمكن أن تكون هذه الوجبة من العوامل التي تساعد في تحسين الدخل والأمن الغذائي من خلال شراء الأغذية المنتجة محليًا، وتزويد المدارس بها. لكن في مصر هي "سبوبة" لبعض الشخصيات التي تحتكر تقديم هذه الوجبات المسمومة لأطفالنا بهدف التربُّح الفاحش. إنما الإهمال والفساد وعدم اتخاذ إجراءات قانونية قوية جَعَلَ هذه الوجبة، التي كان من الممكن أن يستثمرها التربويون لإيقاف ظاهرة التسرب الدراسي ولمزيد من فاعلية العملية التعليمية، سببًا في التسرُّب وسببًا في الوفاة وسببًا في إعاقة العملية التعليمية، بل وحتى سببًا في عدم ثقة المواطن في دولته وفي حكومته.

اقرأ/ي أيضًا:

اليمن..غموض وشكوك حول وفاة الصحفي محمد العبسي

في المغرب.. طلبة مشرّدون