04-يونيو-2016

توك توك مصري

في مصر، يُلخِّص "التوك توك" مسيرة عصر واحتمالات امتداده. والتوك توك -عافاك الله- مركبة هجين، مضطربة الهوية، قليلة الفعالية، يعكس وجودها في الشوارع وطبيعة هذا الوجود وجه عصر عاش نظامه الحاكم بفضل ميله إلى إرجاء كل المشاكل ولا يواجهها إلا مضطرًا، و"مضطرًا" هذه تنطبق بالتحديد على المشاكل والمواقف التي تهدّد بقاءه والتي يقابلها بقدرة نادرة على المواجهة وميل استثنائي إلى الحسم، وهذه القدرة وهذا الميل قلما يظهران في المواقف التي تستوجب فيها المواجهة. والواقع أن فلسفة "الإرجاء" لم تأت من فراغ لكنها الإضافة الأخيرة إلى تاريخ طويل لبلد يجري نهره "النيل" عكس أنهار العالم (من الجنوب إلى الشمال) وتعتمد سلطاته نهجًا معاكسًا لسلطات العالم المحترمة، فهي تعتمد على الشعب ليحلّ لها مشاكلها، بينما السلطات في العالم كله تعتبر أن حلّ مشاكل الشعب هو مهمتها الأساسية وربما الوحيدة!

تعتمد السلطة في مصر على الشعب ليحلّ لها مشاكلها، بينما بالعكس تمامًا في العالم كله

يكفي النظر إلى أي شارع في حي شعبي مصري انفجرت فيه مجاري الصرف الصحي، حيث لن تتدخل الجهات المعنية لشفط المياة وإصلاح العطل إلا بعد أسابيع وربما شهور، يظل خلالها الشارع غارقًا في الماء الآسن، تسرح الحشرات والقوارص في أجوائه ناهيك عن الرائحة النتنة والمياه العطنة التي يحل أهل الشارع مشكلتهم معها بالعبور فوق جسر من قوالب الطوب وإطارات السيارات القديمة (راجع مشهد "عادل إمام" وهو يعبر نهر المجاري في فيلم "الأفوكاتو" لرأفت الميهي).

اقرأ/ي أيضًا: عبث السوشيال ميديا

هذا الجسر المرتجل على بساطته هو الحل الوحيد الذي يجعل عبور الشارع ممكنًا والحياة فيه محتملة، مع كراهة متضمَّنَة بالتأكيد، وهو حلّ قدّمه وما زال يقدمه الشعب لمشكلة تصنعها الحكومة بتقصيرها في إدارة وصيانة مرفق الصرف الصحي وتقاعسها عن اتخاذ أي إجراء لتخفيف آثار هذا التقصير.

لا أطمع في أن تصبح القاهرة "واشنطن" أخرى، ولن أقارنها بعاصمة -مثل "أبو ظبي"- يُعدّ عمرها بالسنوات المفردة لا بالقرون، لكنني سأقارن الحال بما كان يحدث في قريتي حتى سبعينيات القرن الماضي. يروي الكبار من أهل قريتي أن العمال كانوا يهرعون إلى طريق القرية غير المرصوف لإعادة تعبيده وردم ما فيه من حفر صنعها المطر أو تسببت فيها مياه الري، لا يتوانون ولا ينتظرون وقوع كارثة لتحرِّكهم مع أن وسائل الاتصالات كانت بدائية والحكومة لم تكن تدّعي أنها ذكية! أما الآن فالحفر القاتلة على طرقنا المرصوفة تبقى بالسنوات، وهي حفر صنعتها -غالبًا- الحكومة وهي تمدّ خطوط الغاز أو الكهرباء أو التليفون، ثم تركتها للناس يسقطون فيها، ثم يلعنونها، ثم يتأففون منها، ثم يألفونها لدرجة أن واحدهم يقول للآخر: "أقابلك عند المطب في آخر الشارع".

في مصر، يتحول سكان الشوارع الغارقة بمياه المجارير إلى ضفادع تقفز بين الماء الآسن والأحجار الزلقة

سأقارن الحال مع ما يحدث في الهند، وهي بلد ذو كثافة سكانية مرتفعة مثل مصر وينتشر فيها الفقر كذلك، حيث يخرج الجيش الهندي -بجلالة قدره- حاملًا الدلاء وما تيسَّر من "طسوت" و"قصاع" يواجه الفيضان بإصلاح السدود وتدعيم الجسور بما تيسر من قش وحطب وخشب، ويقف العشرات من رجاله في صف واحد لنزح المياه من داخل القرى وتجريف الطين الذي خلَّفته، يملأ أولهم دلوه ثم يسلِّمه للثاني.. وهكذا حتى يصب الأخير الماء في مجرى النهر. عشرات الرجال في عشرات الصفوف يواجهون المشكلة ويعيدون للقرية قدرتها على الحياة، مكتفين بوسائل بدائية -هي كل المتاح- مع أن الهند تسبقنا بشوط طويل على المستوى التقني، أما نحن فنبقى في انتظار المعدات الحديثة التي ستأتي بها المنحة الأوروبية -وربما الخليجية أو اليابانية أو الأمريكية- وإلى أن تصل يكون على سكان الشوارع الغارقة أن يتحولوا إلى ضفادع تقفز بين الماء الآسن والأحجار الزلقة.

اقرأ/ي أيضًا: السلطة الفلسطينية.. فشلت حتى في زراعة البطيخ

ونعود إلى "التوك توك" القادم إلينا بالمناسبة من الهند كتطوير لـ"الريكشا"، وهي دراجة يحركها قائدها بقدميه وتحمل عدة ركاب. أما "التوك توك" فيقف بين الريكشا والدراجة النارية والسيارة الصغيرة والحنطور، حمولته ثلاثة ركاب على الأكثر ولا يعد بتوفير الأمان الكافي لهم، يسير بهم بطيئًا ومتعثرًا من دون علامة مميزة إلا صوته إذ يسير مطقطقا "تُك تُك". 

في البداية، رفضت شرطة المرور في مصر الترخيص للتوك توك بالسير في الشوارع بدعوى أنه يلوث البيئة ويعوق حركة السير، وخوفًا من أن زيادة أعداده المتوقعة في ظل رخص سعره ربما توقف تلك الحركة تمامًا، ثم إن وجوده يضاعف احتمالات التصادم ويزيد من مخاطره. 

مثل الامتناع، في البداية، عن ترخيص التوك توك ميزة كبرى لسائقيه، إذ كان بمقدورهم ارتكاب المخالفات والفرار بلا دليل

كان هذا الكلام الجميل منذ 8 سنوات تقريبًا، ولكنه ظلّ كلامًا فقط، فالتوك توك ظلّ ينتشر ويملأ الشوارع في العاصمة والمدن الأخرى وقُراها، يقف في الميادين ويسد التقاطعات، يقوده -بدون رخصة قيادة- صبية وكهول. كل هذا حدث من دون أن تقوم حكومة أحمد نظيف -وقتئذ- بأي خطوة لمواجهة تلك "الظاهرة" في بدايتها، منشغلة بترتيبات توريث الحكم لجمال مبارك ومواجهة الإضرابات العمالية والاحتجاجات الشعبية المتزايدة. 

اقرأ/ي أيضًا: ساندرز: كيف تجرأ ابن مهاجر فقير على الحلم بالرئاسة

في تلك الأثناء أصبح التوك توك قطيع ميكانيكي مُطلَق في الشوارع بدون أرقام ولا طريقة لتعريفه وتمييزه، والواقع أن امتناع السلطات المصرية في البداية عن إصدار تراخيص سير له مثّل ميزة كبرى لأصحابه وسائقيه، إذ كان بمقدورهم ارتكاب المخالفات -بل الجرائم- ثم الفرار بلا دليل ولا إمكانية للتعرّف على مركباتهم. كان يمكن للتوك توك أن ينقل المخدرات وليس عليه ليأمن العقاب إلا أن يلوذ بالفرار، وليس أمام من يصدمهم التوك توك ويهرب إلا أن يقولوا "العوض على الله" وقيد الواقعة "ضد مجهول".

التوك توك ليس إلا نقطة في بحر "سياسة الإرجاء" التي أدمنها نظام حسني مبارك ويمشي على نهجه الآن زميله العسكري عبد الفتاح السيسي. وقفت السلطات بين المبررات "المنطقية" التي تحول دون السماح بتسييره والدواعي "العملية" التي تدعو إلى "تركه يعمل ويمر" كوسيلة نقل رخيصة في الأماكن التي عجزت السلطات عن مد خدمة المواصلات إليها، وما أكثرها. 

وبين هذه المبررات وتلك الدواعي أرجأت السلطات مواجهة المشكلة، وبدلاً من حسمها لجأت إلى حلول هجينية كإسناد سلطة ترخيص التوك توك إلى المحليات، مع أنه مركبة وليس "كشك سجائر"، لتختلف القواعد من مكان لآخر ويتحول إلى "سبوبة" كبيرة للقادرين على حمايته، ما يؤكد قاعدة أن "كل فوضى مآلها إلى فساد، وكل فساد يفاقم الفوضى". 

لا يزال التوك توك "بعبعًا" يسير في الشوارع المصرية مثله مثل كثير من تركة حسني مبارك

والحال أن الشرطة المصرية رفضت ترخيص التوك توك بينما ضباطها انصرفوا إلى شرائه بكميات كبيرة، فأصبح مركبة غير معترف بها رسميًا لكنها تملأ الشوارع وتفرض نفسها كأمر واقع. كان الأمر يتطلب ذهنية مختلفة للتعامل مع الوافد الجديد إلى الشوارع، إما بالمنع والمصادرة وإما بالاعتراف به والترخيص له، وتطلّب ذلك حوالي 3 سنوات. 

والآن لا يزال التوك توك "بعبعًا" يسير في الشوارع المصرية من دون رقابة كافية أو هوية محددة ويحتاج إلى من ينظّم أموره، مثله في ذلك مثل كثير من تركة حسني مبارك التي تحتاج إلى إعادة هيكلتها، ولكن بذهنية جديدة غير ذهنية هذا النظام الذي يدمن القبض العشوائي على الشباب من المقاهي والمواصلات بدعوى مواجهة الإرهاب، مثلما كان نظام مبارك يجتهد في إزالة مزارع القصب في الصعيد بدعوى استخدام المسلحين الإرهابيين لها كمخابئ، نظام اعتبر القضاء على الجماعات المناوئة نشرًا للأمن، على الرغم من بقاء "العنف" ووجود "المسلحين"!.

اقرأ/ي أيضًا:

لماذا ابتعد الأكراد عن الرقة؟

معركة الرّقة.. أوباما اللاهث خلف التّاريخ