29-يوليو-2022
مسلسل وش وضهر

من المسلسل

تشتهر مدينة طنطا الواقعة في شمال مصر بأنها بلد السيد البدوي، الولي الأشهر في الديار المصرية قاطبة، والذي تشد إليه الرحال من كل حدب وصوب، داخل مصر وخارجها، عادة ما يقصد السيد البدوي أصحاب الحاجات والمساكين والدراويش والمُعلقة قلوبهم بالأولياء الصالحين، المختلف هذه المرة أن من شد الرحال إلى بلد البدوي هم صناع الدراما المصرية.

للمرة الأولى في تاريخ صناعة الدراما المصرية العريقة يتم تصوير مسلسل خارج أسوار القاهرة والإسكندرية والصعيد، وتدور الكاميرا في مدينة طنطا

للمرة الأولى في تاريخ الصناعة العريقة يتم تصوير مسلسل خارج أسوار القاهرة والإسكندرية والصعيد، أخيرًا، بعد ما يقارب نصف القرن انتبه الصُناع إلى وجود حياة خارج المدن الرئيسية وخارج حكايات الثأر في الجنوب، فأخرجوا لنا عملًا متفردًا يقترب إلى الكمال، حدوتة مصرية خالصة ترويها شخصيات تشعر فيها أنها أنت.

تدور أحداث مسلسل "وش وضهر" حول شخصية جمال/جلال فرحات التي جسدها بجمال لا يُضاهى الفنان إياد نصار، يهرب جمال من ضيق القاهرة إلى براح طنطا، تاركًا وراءه إرثًا ثقيلًا من الهزيمة الموجعة، زوجه لا تحبه ومجتمع لا يتقبله، فيطير إلى مجتمع آخر يصنع منه بطلًا شعبيًا كالذين ورد ذكرهم في السيرة الهلالية، يتبدل اسمه إلى جلال وتتبدل مهنته من عامل بمخزن أدوية إلى طبيب باطني يفتح أبواب عيادته أمام الفقراء، فيصبح طبيبهم وأسطورتهم الخاصة، مستعينًا في ذلك بـ ضحى، الممرضة التي قامت بدورها المبدعة ريهام عبد الغفور.

أحداث جسام وشخصيات مبهرة يفيض بها المسلسل على مدار حلقاته العشر، التي تود حين تراها أنها لا تنتهي أبدًا. قصة حب بين طبيب مزيف وممرضة كاذبة ولدت لتموت، ولكنها تكتمل. محام متلبس بدور رجل الدين، وملحن مسّه العشق فأضحى مجذوبًا. راقصة معتزلة تشعر حين تتحدث أن رائحة الماضي وعبقه يفوحان من فمها، وغير ذلك من أعضاء الأوركسترا السيمفونية المسماة "وش وضهر".

قد تكون كتابتي انطباعية، وهي كذلك بالفعل، فأنا لست بصدد التقييم الفني فتلك مهنة النقاد الذين يصعدون إلى السماء بنجم يحبونه ويطرحون آخر أرضًا لأنه لم يقدم فروض الولاء في بلاطهم، أنا فقط بصدد الاحتفاء بعمل يفتح الباب لأن نرى دراما حقيقية، غير تلك التي تدور داخل الكومباندوات المعزولة التي يسكنها نسبة لا تتعدى 1 % من الشعب المصري، من الذين لا يعلمون كيف يهزم المواطن المصري يوميًا، ثم يخلد إلى فراشه فيصحو في اليوم التالي وقد آتته طاقة سحرية خفية تساعده أن يتلقى هزيمة أخرى، وكأنه يصعر خديه لتلقى الهزائم.

الجميل والعجيب في آن، هو أن تجد نفسك تمثل على الشاشة الصغيرة بينما أنت في الواقع ربما لم تمر إلى جانب استوديو، هذا بالضبط هو ما أحسسته وأنا أشاهد "وش وضهر"، كل شخصية من هؤلاء تحمل جزءًا مني، تجسدني رغمًا عني، وأنا الذي قضى عمره خلف الشاشات! ولكن لم العجب فوش وضهر تم تصويره داخل شوارع طنطا وليس داخل إستوديوهات، في تلك الشوارع التي تعرفنا ونعرفها، نحبها وتحبنا.

أكملت دراستي الجامعية في جامعة طنطا، ومن يومها لم يفارقني طيف المدينة لحظة واحدة، في هذه المدينة شيئًا ما غامضًا يجذب كل من يزورها ولو لمرة، فيجعله يعود إليها ثانية، ليس هناك ثمة ما ينبئ عن ذلك، ربما هو السيد البدوي وربما شوارع المدينة ذاتها، ربما المقاهي وربما فتاة أحببتها، أيا كان فالنتيجة واحدة، طنطا "نداهه" كما تسمى الأساطير الشعبية كل شيء يجذبك إليه.

عيادة الطبيب المزيف جلال فرحات تقع في ميدان الساعة، أشهر ميادين المدينة على الإطلاق والذي يقع على مقربة من جامع السيد البدوي ومحطة القطار، لا بد لكل من يزور طنطا أن يمر بهذا المثلث الذي يشبه مثلث برمودا، رغما عن صغر مساحته ولكن به سحرًا، أحفظ عن ظهر قلب الشوارع كل شوارع الذي تم تصوير المسلسل به، والذي شهد على فرحي وحزني ودموعي وانكساري، بل إنه شاهد على الزمان.

كل حارة في مصر تزخر بحكايات عمرها مئات وربما آلاف السنين، ومن يفتش عن الحكاية لا بد وأنه سيجدها

 

نجح صناع المسلسل في أن يقتربوا من المُشاهد حدّ حبل الوريد، عوضًا عن الحبكة المتقنة فكل حلقة من حلقات المسلسل تنبئ برسالة، تنتهي الحلقة وتترك كل من شاهدها يتلقى تلك الرسالة ويفسرها على طريقته الخاصة، أكاد أجزم أن كُتّاب المسلسل أحمد بدوي وشادي عبد الله قد كتبوا بعضًا منه أو أتت لأحدهم فكرة أحد مشاهده وهو مرتاد لمقهى شعبي، يحتسى الشاي أو القهوة ويستمع إلى حكايات البسطاء الذين يجسدهم المسلسل.

لا أعلم بلدًا يمتلئ حد الثمالة بالمآسي والملاحم والدراما مثل مصر، هذا البلد المثقل بالحزن، وكل حارة فيه تزخر بحكايات عمرها مئات وربما آلاف السنين، من يفتش عن الحكاية في مصر سيجدها، وهو ما فعله صناع المسلسل بإجادة وإتقان، فتشوا عن الحكاية فجمعوا منها الكثير، ثم صنعوا حكايتهم الخاصة.

وش وضهر هو انعكاس حقيقي للمجتمع المصري، كل من لم يزر مصر وتمنى زيارتها أو حتى التعرف عليها سيجد مبتغاه في هذا المسلسل الذي يجسّد مصر ومواطنيها، تحديدًا الطبقة المتوسطة التي تصارع للبقاء والتي تمثل السواد الأعظم من الشعب المصري، وعندما يمتزج واقع الشخصية بسحر المكان فمن الطبيعي أن نشاهد هكذا عمل يخبرنا برسالة واضحة: هذه مصر التي كانت، وهذه التي أصبحت.

وش وضهر؛ مسلسل يشبهنا ونشبهه.

التوقيع: مواطن مصري.