27-يناير-2017

من العرض

يتداول الجزائريون، هذه الأيّام، شعارًا ورد في أغنية تهكمية لنخبة من "البوداكست"، بالموازاة مع إقصاء الفريق الوطني لكرة القدم، من منافسات "كأس أمم أفريقيا" في دولة الغابون، هو: "شكون حنا؟"، أي من نحن؟ بما يُحيل على جرح الهوية لديهم، ليس من زاوية التاريخ، كما تعوّدوا عليه، سواء فيما تعلّق بثنائية "أمازيغ ـ عرب" أو ثنائية "الجزائر ـ فرنسا"، بل من زاوية الواقع الاجتماعي والسّياسي والاقتصادي. وهو مفصل حسّاس جدًّا في حياة الشعوب، لم يسبق لهم أن عاشوه.

انتقل الجيل الجديد، في الجزائر، من الاستقالة المعنوية إلى محاولة معرفة الذّات

وإذا كان هناك عمل مسرحي جزائري، طلع هذه الأيام، منسجمًا تمامًا مع هذا المفصل/ التحوّل، ورصد تجلياتِه النفسيةَ والفكريةَ، وفق رؤية فنية عارفة، فهو مسرحية "ليكستا" التي أخرجها، بعد أن أعدّ نصَّها عن "نهاية اللعبة" لصموئيل بيكيت، أحمد مدّاح (1988) أحد الوجوه الشابّة التي تراهن على قراءة اللحظة الجزائرية مسرحيًا، من خلال ما يبدو عابرًا وتافهًا ومبتذلًا في القاموس والنّصوص والنّفوس.

اقرأ/ي أيضًا: أيوب عمريش.. سندباد المسرح في الجزائر

لقد انتقل الجيل الجديد، في الجزائر، من مقام الاستقالة المعنوية، في تعاطيه مع الفضاء العام، إذ انخرط في عملية تغييبٍ للجسد، عن طريق الانتحار والهجرة غير الشّرعية، وتغييبٍ للعقل، عن طريق تناول المخدّرات والمهلوسات، أشهرها حبّة "ليكستا"، التي جعلت منها المسرحية عنوانَها، إلى مقام محاولة معرفة الذّات، ورصد جملة التناقضات التي تشكل يومياتِه ومقولاتِه وقناعاتِه وأحلامَه ومشاعرَه.

إنّ الإحساس بالتناقض، ورصدَ كيفيات وثمار نخره للذّات، كان الهاجسَ الأكبر لهذه المسرحية التي أنتجتها "جمعية النوارس للمسرح والفنون الدرامية"، خاصة من زاوية الرّغبة الجماعية في البقاء على قيد الوفاء للأب/ الأصول، بالموازاة مع الرّغبة الجماعية في العيش بحرية تامّة، ممّا أدّى إلى فشل صارخ في التعامل بحكمة ونضج، مع ما أسماه عبد الله الغذّامي بـ"الثنائيات الغبية" من قبيل "أصالة ـ معاصرة" و"قديم ـ جديد" و"الأنا ـ الآخر" و"وطني ـ مستورد".

توزّعت سينوغرافيا العرض، على كامل خشبة "المسرح الوطني الجزائري"، إشارة إلى أن المشهد الجزائري كلّه معني بالحالة المتناولة، وليست خاصّة بجيب من جيوبه، كما تحاول المنظومة الرّسمية الإقناع به. شاشتا تلفزيون قديمة وحديثة، لعبتا أحيانًا دور كاميرا مراقبة، ماعون مليء بالماء والصّابون، يُستعمل فيما بعد في تطهر الجسد والذّات من الغبار، قارورات معبّئة بسوائل غامضة، تعزّز حيرة المتلقي والممثل معًا، قشّ، يُستعمل في محاولة ردم الذّات المهيمنة، مكبّر صوت، يُستعمل في لحظات الانعتاق، كرسي ثابت، يحمل الذّات المهيمنة التي تدور حول نفسها، وتتحكّم في الآخرين.

من هنا، يُعدّ من التعسّف القول إن العرض جسّده ممثّلان، عبد الله نمّيش في دور "هام"، وياسين جوزي في دور "كلوف"، ذلك أن كلّ عنصر من العناصر السينوغرافية المذكورة، لعب دوره كاملًا في تمرير رسالة محدّدة، ما يضعنا أمام مفارقة هي إحدى أهمّ الرّسائل التي أراد أحمد مدّاح أن نتلقاها، مستعينًا بموسيقى وإضاءة حيّتين: أرواح مشيّئة وأشياءُ مأنسنة.

يقارب أحمد مدّاح، في مسرحياته، الدّمار الدّاخلي للفرد والمجتمع

يُحرّر الفتى "كلوف" الفتى "هام" من قوقعته البلاستيكية، من غير أن يُحرّره من الكرسي الثابت والدوّار، حتى أنه ظهر شطرًا من جسده، أو يُحرّرَ وجهه من قناع يُستعمل لمنع الكلاب من عضّ النّاس. ومن غير أيّ تفسير منطقي، بالنسبة له وللمتلقي، ينبري لخدمته والعناية به، رغم أن "هام" يتعمّد تجويعه وإهانته وإرهاقه، من باب "جوّع كلبك يتبعك"، كما يتعمّد تحريضه على قتله للتخلّص منه أو المغادرة على الأقل، ليختبر استمرار استمتاعه بالعبودية، لكنّ "كلوف" يفشل في ذلك، فيلجأ إلى الهذيان.

اقرأ/ي أيضًا: المهرجان الجزائري للمسرح المحترف.. دورة متقشّفة

هيمنت النّبرة الهاذية على اللغة المستعملة، فكأنّ دورها أصبح الكلامَ لذات الكلامِ، تاركةً دور التبليغ للجسد والأشياء، أي لما هو مادّي، إشارة إلى موت الإنسان وجدوى القاموس، لكنّها توفّرت على جرعة رائعة من الشّعرية المحرّضة على التأمّل. من ذلك: "دقيق بلا قمح/ زواج من غير امرأة/ ضوء يحبو على الحائط". مع الإشارة إلى بقاء النّص محتاجًا إلى معالجة واعية لبعض الكلمات والجمل التي لم تبق فصيحة تمامًا، ولم تُدَرَّجْ تمامًا، ممّا جعلها قريبة إلى النّشاز الذي لا مبرّرَ فنّيًا له.  

إن هناك بحثًا عن إنسان ما قبل اللغة، حيث كان الحلم والتطلع والصّفاء والانسجام مع الطبيعة، مفرداتٍ تتحكّم في الذّهنيات والنّفسيات. من خلال اعتماد فلسفة ما بعد التمثيل، حيث يتمرّد الممثل على الشخصية ويعلن موتها، كما ذهب إليه يوجين باربا، خاصّة في إعداده لمسرحية "فاوست". غير أنّ الممثلين لم يذهبا بعيدًا في تحرير جسديهما، في بعض المفاصل، حركةً وتعريةً، إذ كان السّياق يقتضي ذلك، من منظور فنّي ووجودي، خاصّة الفتى "كلوف"، الممثل سفيان جوزي، بما في ذلك لحظة التطهر بالماء والصّابون في النهاية.    

بهذا، تنضمّ "ليكستا"، إلى جملة المسرحيات التي أخرجها أحمد مدّاح، الذي تخرّج من "المعهد العالي للفنون الدّرامية"، في الجزائر العاصمة، عام 2011، منها "الصّوت الأصفر" عام 2010، وقاربت الصّراع بين الأجيال والثقافات، و"أسلاك شائكة"، عام 2012، وقاربت الدّمار الدّاخلي للفرد والمجتمع، و"أنثى النص" للشاعر رمزي نايلي، عام 2013، وقاربت الصّورة الجديدة لحوّاء، و"عطيل" التي قرأت العالم المعاصر بعيني شكسبير. شعاره في ذلك: "إذا لم تصحّح السّيرة الحالية، فالفراغ والعنف، سيكونان هوية المستقبل".

اقرأ/ي أيضًا:

بوتشيش بوحجر.. ماريشال المسرح الجزائري

عبد الله بهلول.. أن تمارس المسرح وتدرسه