14-مايو-2017

إيفا كوستياتكوفا/ التشيك

"ملاحظات مريض عصاب 
أمام مقهى دونا بيلا
على تقاطع ماريوت وغرينوتش"

طفا الجسد على سبخة شبه مستديرة من ماء المطر. كلا، لم يحدث هذا، ليس بالضبط؛ كيف لجسد أن يغرق ثم يطفو على سبخة من ماء المطر بالغ ما بلغ من صغر الحجم، فما بالك بجسد موفور الأنوثة تتفجر منه فاكهة الحياة. بل كانت تطير، على ارتفاع منخفض فوق السبخة. يداها مفرودتان كجناحين وشعرها أحمر كثيف كان حرفيًا هو الآخر يطير. نعم المنطق يقول إنها كانت تطير. مقلوبة على وجهها. يحوطها المارة الفضوليون ورجال الإسعاف والشرطة وحتى رجال الإطفاء لسبب غير مفهوم. لغط وأصوات تتداخل قبل أن يبتلعها فضاء مشبع بالضباب. هاجس ما مرّ بخاطري ثم سمعت صوتها الحاد يقول: حتى جذع شجرة! جذع شجرة يا دكتور.

سيغيل… ناديتها… سيغيل… لم تجب…
حاولت استدعاءها كاملة الى ذاكرتي، بدا لقائي بها غائمًا رغم أن ساعات لم تكد تمر عليه. حاولت إيجاد تسلسل زمني مقبول لانفعالاتها وردود أفعالها على أسئلتي. حاولت تذكر أسئلتي. لم أتذكر سوى رائحة الكرز ومرحبًا أنا سيغيل، وأتمنى أن أتمكن من مساعدتك. 

لا شيء يسبب الصدمة في عملي، اللهم إلا أن يتصرف الزائرون كأناس عاديين لوقت طويل، وقتها أبدا فعلًا بالقلق. آه بلى، أتذكر أيضًا انني لم أعقّب، تماشيت تمامًا مع لعبتها ودعوتها بدكتورة. ماذا غير ذلك؟ الشجرة وشيء ما عن الأطفال! فتحت شنطتي، أخرجت دفتر الملاحظات، وعلى ورقة تحمل اسمها تكومت أوراق صغيرة لاصقة وملاحظات سريعة، أعتقد أنها كانت كفيلة بعدم فقداني للتواصل البصري والذهني معها.

توالت الملاحظات المبتورة، الخط وعشوائية الترتيب والأسهم الكثيرة التي تضيف وتعلق جعلت الصورة أبعد وأشد تشويشًا.
لا أحب الطفل يسوع، سهم، أفضله رجلًا.
شجار أطفال، سهم، تأكل البسكويت، سهم، طردوها. علامتي تعجب.
الأطفال العكاريت، بين قوسين، هؤلاء الشياطين الصغيرة. 
وعلى ورقة ثانية التصق طرفها بالزاوية السفلية للأولى ظهرت الجمل التالية منحدرة الى الأسفل، أظنني فشلت بالكتابة على السطر وانتهيت بنموذج سيّء للغاية: تجارب أداء، سهم، جذع شجرة في برنامج للصغار، بين قوسي تنصيص "طبقة صوتك لا تناسب صوت شجرة"، بين قوسي تنصيص آخرين "وكيف بالله يجب أن يكون صوت الشجرة"، وأيضًا علامتا تعجب.

في أوراق أخرى ملتصقة بعضها فوق بعض رسم لقلب وكلمة خطيئة، وأسئلة من أمثلة "لماذا ينجب الناس كالقطط؟".

بلى بلى، أتذكر الآن، أتذكر أنها قالت شيئًا ما عن الأثر الجانبي السيئ للسلام في مدينة نيويورك، حيث يتفرغ الناس مرتاحين للإنجاب. أتذكر ذلك لأنني فكرت أن العكس أصح، الحرب هي المصنع الفعلي للأطفال حيث لا يجد الناس ما يسرون به عن أنفسهم سوى صناعة الاطفال. أبتسم مرة أخرى وأنا أتذكر ما مر بخاطري لحظاتها: سلطان من مسرحية العيال كبرت يقول لأمه "هو إنتوا كنتوا بتخلفونا ليه؟ ما كنتوا مشيتوها على البوس وخلاص".

بينما كنت أفكر بسلطان كانت تدس سيجارة رفيعة بين شفتيها. أردت أن أقول لها ممنوع، لكنني لم أفعل. ثم جاءت رائحة الكرز، ارتعاش خيط الدخان بين أصابعها الطويلة بدا سيرياليًا جدًا، بدا مناسبًا للحالة ويقول عنها ما لا تعرفه عن نفسها.

ما الذي جعلني أكتب بخط صغير كلمة عصاب وأحوطها بدائرتين؟ أعني؛ كل ما تشير إليه ملاحظاتي أنها كانت تكره الاطفال. يعني!! هل هناك قانون طبيعي ملزم يدفع بِنَا إلى حبهم؟ مرة أخرى، أعني من بين كل حالات الهستيريا والتخشب والهوس التي رافقتني أطول مما رافقني شعر راسي، ما الذي يجعلني أطلق الأحكام جزافًا على هذه المسكينة. لا أذكر أنها حاولت تقبيلي ونادتني بعزيزتي كالمريض الذي سبقها، هي حتى لم تلمح للحظة بكوني محقق استخبارات في دولة شيوعية، وهي مختطفة لدي أو أي كلام عن غسيل دماغ، ولم تضع وقتي بالكلام الفارغ عن جمال الحياة وضرورة انتظار قرارها بإنهاء خدماتنا فيها، بدلًا من اتخاذ هذا القرار بإرادة حرة. هل قالت شيئًا عن الحقول والمواشي النافقة ورائحة الروث وسط المدينة. لا لا ليست هي! عن امتلاء محطات المترو بالخنافس؟ لا، محاولة خلع معصمي لانه حقيبتها، كلا كلا، رفض الجلوس على المقعد لانه من غير اللائق الجلوس في حضن سيدة بدينة على الملأ، كلا، مهاجمة الشماعة لانها ابتلعت معطفها، أبدًا... إذًا… 

يكره الناس يا دكتور، ربما لأنهم يخافون لا أكثر وربما من فرط الحب من يدري، لقد كان استنتاجًا متسرعًا على الأرجح.
أتذكر دفء رقبتها الشفافة، أتذكر يدي.

وأنا أفكر بشطب الدائرة وما فيها، كان رجل إسعاف يضغط بكلتا يديه على صدرها، يصرخ في أذنيها: دكتورة، دكتورة. كانت هي سيغيل، وكان وجهها نائمًا كنوم الأطفال، وكلما ضغط الرجل ضغطة سمعت بكاء طفل أظنه كان قلبها!

 

اقرأ/ي أيضًا:

الطائر الوحشي

لن تمتد يد لتسحبك