28-مارس-2021

أمام مقهى ستاربكس في كوالالمبور (Getty)

تلاحظ شارون زوكين في كتابها "ثقافات المدن" أن ما يصنع الاقتصاد الرمزي للمدن الكبرى اليوم هو شوارعها وما تتضمنه من نشاطات تتصل بالفن والاجتماع والثقافة. تبدأ هذه العلامات الرمزية برسوم الغرافيتي، وتمر حكمًا على مطاعم الأرصفة، وتتطاول عاليًا نحو اللافتات المضاءة المنصوبة في الشوارع، لكنها لا تحلق نحو الأبراج الصماء والمقفلة على العابرين.

ما يصنع الاقتصاد الرمزي للمدن الكبرى اليوم هو شوارعها وما تتضمنه من نشاطات تتصل بالفن والاجتماع والثقافة

الأبراج العالية والفنادق الكبرى لا تعرّف مدن اليوم. ما يعرّفها هو ما يمكن مصادفته في الشوارع، والتحاور معه والألفة إليه. فالأبراج العالية تشبه في وظيفتها الحديثة ما كانت عليه وظيفة القلاع في حواضر ما قبل الحداثة ونشوء المدن، حيث تحدد تلك القلاع - الأبراج حدود السلطة في المدينة ومداها الجغرافي والبصري، لكن ما يحصل في المدن حقًا، يحصل خارج هذه القلاع وعلى أرصفتها.

اقرأ/ي أيضًا: مقاهي الإسكندرية.. التاريخ في القهوة والشاي

مدن اليوم ورغم الطابع التجاري الذي يحكمها جميعًا، والرغبة الصاخبة ببيع الخدمات التي تشهرها المدن عاليا، ليست مرحبة بالغرباء على النحو الذي كانته المدن الكبرى في خمسينيات القرن الماضي وامتدادًا حتى نهاية سبعينياته. مدن اليوم، ولأسباب متعددة، تشكل مصدر قلق للعابر والغريب. فالشوارع ليست كلها آمنة، والزحمة غالبًا ما تؤدي إلى عنف لفظي أو جسدي على حد سواء، والمناطق الوحيدة التي تكون فيها الزحمة آمنة للناس المتوافدين إليها هي تلك التي تنشأ في كنف المراكز التجارية الكبيرة، والتي تتم حراستها بعناية شديدة، كما لو أن المتنزهين في هذه المراكز هم مجرد سجناء أطلقوا إلى الفسحة المحروسة جيدًا، والتي يمنع حراسها أي احتكاك بين الناس، ويحرصون على تركيز انتباه الزائرين إلى ما تعرضه من بضائع وسلع، كما يفعل المساجين وهم يركزون جل انتباههم، خلال الفسحة، على نور الشمس المنبعث من فتحات السقوف العالية والمسورة.

يشترك الغريب والمقيم في المدن الحديثة في إنفاق الوقت في شوارعها. سواء كان المرء مرتديًا زيًا رسميًا وهو في طريقه إلى عمله، أو كان متسكعًا يبحث عن مكان ليريح قدميه ويتقي حرارة الجو أو برودته. لكن الغريب والسائح، على عكس المقيم، لا يسجن نفسه في دائرة مغلقة وضيقة في المدينة، فبوسعه أن يحاول اكتشاف شوارع أخرى، أو التجول بلا هدف في أماكن، يندر أن يذهب إليها المقيم على مقربة شارع أو شارعين من الشارع الذي يقيم فيه. لكن الغالب على تجربة العيش في المدن والتجول فيها أن هذا العيش يحتاج إلى دليل أو رفقة ليصبح التغلب على مصاعبه ممكنا.

مع نحو المدن الحديثة إلى إبراز عنفها المكتوم وتحولها عن وظيفتها بوصفها تقاطع طرق نحو وجهة ما، أكانت الوجهة بيتًا أو مدينة أخرى، أصبح الزائر يتوجس من كل ما فيها. فلا يستطيع الزائر لهذه المدن أن يقرر في أي مطعم بوسعه أن يحصل على طعام شهي وصحي وغير مكلف، أو أين يجد مكانًا مناسبًا لقضاء حاجاته وتدبيرها، من دون أن يتعرض للابتزاز. وتلبية لهذه الحاجة تكاثرت التطبيقات على الهواتف المحمولة التي تسعى لتعريف الزائر، والمقيم أيضًا، بتجارب آخرين سبقوه إلى هذه المطاعم والمقاهي والفنادق والمسارح ودور السينما. والأرجح أن الزائر والمقيم على حد سواء، لا يعرفون مدنهم بسبب تنوع ما فيها وكثرته الساحقة، ومجهوليته التامة في الوقت نفسه. وفي هذا السياق تلعب سلاسل المطاعم والمقاهي الشهيرة دورًا كبيرًا في تبديد غربة الزائرين وجعل الأمكنة العامة أليفة بالنسبة للمقيمين. وتقبع مقاهي ستاربكس في مقدمة هذه السلاسل. فبخلاف السمعة السيئة، على المستوى الصحي، التي تحيط بمطاعم الوجبات السريعة، تقدم مقاهي ستاربكس قهوتها التي ما زالت منتجًا مرغوبًا من الجميع، وتثني عليه دوائر الأبحاث الصحية في العالم أجمع. فضلًا عن ذلك، يتوقع الزائر بدقة شديدة ما الذي سيكون عليه المنتج الذي يشتريه من هذه المقاهي لأنه اختبره في الحي الذي يعيش فيه آلاف المرات. ولأن سلسلة المقاهي الأشهر في العالم لا تشترط على الداخلين إلى مقاهيها أي شروط، وتقدم عددًا من الخدمات الحيوية مجانًا لكل من يجلس على كراسيها أو يستخدم فضاءها الخاص، فإن الزائر والمقيم على حد سواء يجدان فيها عن حق مكانًا مثاليًا للاستراحة بين نشاطين.

ارتفع عدد المقاهي التي تديرها ستاربكس في الولايات المتحدة والعالم من نحو 9000 مقهى إلى ما يقرب من 30 ألف مقهى، في 76 دولة

في هذه المقاهي، يستطيع المرء أن يكتشف طبيعة الحي الذي يزوره من دون أن يدان بالفضول والتلصص أو أن يتعرض للمساءلة. فكل مقهى من هذه المقاهي، يضم في أرجائه عينات واضحة لطبيعة السكان المحيطة به. فهذا مقهى يكثر استخدام اللغة العربية فيه، لأن جالية عربية في المدينة تقيم في الجوار، وذاك مقهى ستجد فيه الكثير من الآسيويين لأن محيطه السكني يزخر بهؤلاء. وفي وسع المرء أن ينتبه من اللحظة الأولى إلى أن زبائن مقهى آخر يغلب عليهم ارتداء الأزياء الرسمية، ما يعني أن المحيط يعج بالشركات الكبيرة، أو الدوائر الرسمية.

اقرأ/ي أيضًا: في البحث عن مقهى..

لهذه الأسباب، ربما، تحقق سلسلة مقاهي ستاربكس نجاحًا مدويًا في الولايات المتحدة وخارجها. فخلال السنوات الخمس الأخيرة ارتفع عدد المقاهي التي تديرها الشركة في الولايات المتحدة والعالم من نحو 9000 مقهى إلى ما يقرب من 30 ألف مقهى، في 76 دولة على الأقل. بل إن هذه السلسلة بدأت تغزو أوروبا التي كانت حتى وقت قريب، تعتز بوطنيتها وتفخر بفرادة ما تقدمه للسائح والعابر والمقيم. ورغم أن الفرادة مطلوبة ومرغوبة في المدن، وهي ما يشكل هويتها ويحدد معالمها، إلا أن كثرة الوقت الفائض التي باتت سمة ملازمة للحياة المعاصرة، يحتاج إلى وجود أماكن أليفة يركن المرء إليها من دون جهد، لكي يتسنى له الراحة قبل معاودة نشاطه في اكتشاف الفرادة والتمتع بالاختلاف.

مقاهي ستاربكس أصبحت على نحو ما نقاط ارتكاز في معظم مدن العالم المعولمة. وإليها يركن الغريب ويطمئن، في الفترات التي تفصل بين اكتشاف وآخر. لهذا تبدو هذه المقاهي مثابة واحات في المدن يتفيأ العابرون في ظلها حين يحل بهم التعب وتخف في نفوسهم حدة الفضول. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

تاريخ المقاهي الشعبية في مصر.. بأقلام الجواسيس!

دليلك لزيارة أقدم مقاهي وسط البلد في القاهرة