02-سبتمبر-2018

جان جينيه (1910 - 1986)

عاش الكاتب الفرنسي جان جينيه حياة شقية، وقد استطاع أن يحولها إلى نص أدبي مهم في روايته "يوميات اللص"، التي تتوقف عندها الكاتبة باتي سميث في مجلة "باريس رفيو" في مقال ننقله إلى اللغة العربية. 


يكشف جان جينيه في الصفحات الأولى المثيرة لروايته "يوميات اللص" (The Thief's Journal) عن طموحاته الشابة، ومذهبه كشاعر، ومبادئه كرجل. يفتتح الرواية بجملة "زي السجناء مُخطط بالأبيض والوردي"، ثم بدأ في فقرة من النسب البروستية حيث يلقي بالقارئ على الفور إلى وسط الخلوة الداخلية للسجين. يطلعنا على إيماءاته وأصواته ورائحته، ومبادئه الضمنية. ثم نرى أناسًا مفتولي العضلات يسيرون في خيلاء، يرتدون ملابس مخططة وملونة كملابس حفلة أطفال، أو كعصي حلوى باهتة اللون - ربما اختيرت هذه الألوان للاستهزاء بمرتديها، وهم أكثر المجرمين قسوة في فرنسا.

يكشف جان جينيه في الصفحات الأولى المثيرة لروايته "يوميات اللص" عن طموحاته الشابة، ومذهبه كشاعر

لكن جينيه قد غطى هذا الاستهزاء بالفخامة؛ هذه هي ألوان جامعته المختارة، وهي الألوان التي يعتقد أنه سيرتديها يومًا ما على ظهره ليتخرج من جامعة المجرمين ويصبح مجرمًا، ثم مدانًا، بعد أن كان لقيطًا. وبهذا يتحقق الأمر، سيحصل على شرف الانضمام لرفاقه الذين تم اختيارهم حيث يتم نقله بحرًا من ميناء بريتون في بريست، إلى جزيرة الخَلاص قبالة ساحل المستعمرة الفرنسية غويانا. يتخيل نفسه محاطًا بهم، مقيد الكاحلين، يسير عبر الطريق الموحل باتجاه سجن سان لوران دون ماروني، حيث يتم نقل أكثر الناس إثارة للخوف عبر نهر ماروني المليء بأسماك البيرانا، ليتعفنوا في جحيم جزيرة الشيطان.

اقرأ/ي أيضًا: خوان غويتيسولو.. "الطائر المنعزل" يودّع مراكش

في صغره، كان يرى نفسه مساعد كاهن متوجًا بشوك الأمجاد، ومرتديًا الألوان المقدسة. عندما كان عمره سبعة أشهر فقط، تُرك في سلة أمام دار أيتام. وعندما بلغ الخامسة عشرة من عمره، دخل مؤسسة ميتراي العقابية للجنح والجرائم الصغيرة. وفي التاسعة عشرة، سُرح من الخدمة العسكرية في الفيلق الخارجي بشكل مخز، بسبب إقامته علاقة حميمة مع جندي آخر. وبالكاد عندما بلغ سن العشرين، أصبح متشردًا يمر بأقسى الظروف. ذاك هو الطريق الذي اختاره في سعيه وراء الملابس المخططة بالوردي والأبيض التي تميز المدانين.

يشق طريقه معدومًا عبر أوروبا عام 1932، مارًا بعصابات المتسولين، والقمل، والبرد، والجوع، باحثًا عن كسرة خبز أو قطعة من الملفوف، وعن أي مأوى بسيط. مارًا بإقليم فلاندرز، وبولندا، وألمانيا النازية، وتشيكوسلوفاكيا، والأندلس، والساحل الإسباني، ويتسكع إلى جانب الحُجاج في طريق سانت جيمس. يونغ جين، ذلك الشخص الخسيس الفطن، واللص المتنقل، يقدم خدمات للقوادين وباعة المخدرات المتجولين. أن تأكل يعني أن تسرق، فالسرقة بالنسبة له كانت وظيفة. لكن كان ارتكاب جرائم تستحق السجن يمثل نوعًا آخر من ضروريات الحياة عنده، كان ينفذ جميع الطقوس والتدابير الواجبة، وكان يعيد تهيئة الجو العام، ثم يرفع هؤلاء الرجال ويقوم بإلباسهم تاج أمجاد من تصميمه الخاص.

سلفادور، ولوسيان، وغاي، وستيليتانو، وبيلي بود الأشقر. هذا هو عالم الرجل حيث تُختزل الأنوثة في المشية الصلبة. لقد كان يحبهم في أقسى درجات بؤسه، سواء لقوتهم أو جمالهم أو قبحهم أو لموهبتهم الرائعة. ولكن، لم يحبونه هم في المقابل؟ ربما قد أدركوا بالفعل أنهم سوف يُذكرون يومًا ما من خلاله، وكأنهم يسطرون عبارة "لا تنسوني" في صفحات كتاب حياته الذي لم يُكتب بعد.

بعد أربعة عشر عامًا، كتب جينيه رواية "يوميات اللص - The Thief's Journal"، والتي تُعد أكثر أعماله إبهارًا في سيرته الذاتية. إنه مراقب صريح يستعيد معاناة وبهجة حماقاته وتجاربه وتطوره. لا توجد أقنعة؛ بل حُجب فحسب. إنه لا يتراجع؛ بل يستخرج النبل من الخسة. يمشي قاطع الطريق القذر في الليل بينما تعبر بدلال امرأة ترتدي ملابس ممزقة تم رتقه بقطع قماش متلألئة؛ يعلق القليل من القصدير في المصباح الزيتي مسببًا شررًا كالنجوم المتلألئة.

"يوميات اللص" للكاتب جان جينيه تُعد أكثر أعماله إبهارًا في سيرته الإبداعية

لا يتولد تحول معنى هذه القصاصات، التي ترمز للتألق الداخلي في يومياته، من الحقائق المجردة، بل من الحقيقة الراقية. بالنسبة ليومياته التي تتخذ شكلًا شعريًا، فالحقائق ليست ضرورية، لأنها تتغير بتغير المنظور. يفقد الكاتب نفسه، فتارة يتأمل عمله الخاص من منظور الكاتب، ثم يعود مرة أخرى إلى العالم السفلي للرجال، مثل الكرات الإلكترونية التي تدور بسرعة حول شمس الطاقة. يقوم بإعادة دخول متاهة هذه الحقبة، في وقت يتزامن مع علمه أنه سيتم نقل السجناء من جزيرة الشيطان، حيث ستغلق الجمهورية الفرنسية المعسكر العقابي للأبد، متذرعة بالظروف غير الإنسانية. يقول نادبًا حظه "لقد أُبعدت عن أعمالي المشينة". إذ سوف يُحكم عليه بقضاء عقوبته بسجن خارج باريس، مرتديًا اللون البني.

اقرأ/ي أيضًا: ما أكثر الملائكة في طنجة!

لم تُنشر رواية "يوميات اللص" في أمريكا رغم نشرها في فرنسا عام 1949، حتى قامت دار "غروف بريس" للنشر بنشرها عام 1964. وتُرجمت باحترافية من قِبل الكاتب العظيم برنارد فريتشمان، الذي استطاع أن يدرك أسلوب جينيه في التحرك بسلاسة بين لغة الشارع واللغة الرفيعة. لقد اشتريت نسختي من الرواية من مكتبة "Eighth Street Bookshop" بمنطقة "West Village" في نيويورك. كانت موضوعة على الطاولة بجانب الروائع الأخرى لدار نشر غروف، مثل، مراجعات إيفرغرين، وكتب ممنوعة أخرى لدار نشر أوليمبيا برس ـــ أعمال ممنوعة طال انتظارها. كان سعرها تسعة وتسعون سنتًا، في شتاء عام 1986. هرعت عائدة لبروكلين عن طريق المترو إلى الشقة التي كنت أشاركها مع روبرت مابلثورب. وفي تلك الليلة قرأت الرواية لروبرت بينما كانت الثلوج تتساقط في الخارج.

بالنسبة لي كانت كل صفحة بمثابة معجزة، أما بالنسبة لروبرت فقد كانت بوابة لعالم تم رسمه خلسة، ولكن سيتم تخليده في نهاية المطاف من خلال الصورة. كنز الفنانين. عمل أدبي رائع، مقطوعة موسيقية خلابة، كتمثال تم احترامه بتقدير حتى اللحظة ـــ عندما يتوقف هذا لاحترام، بحسب بروست، بسبب فرحة عارمة ـــ يلقي جانبًا بكل الافتتان المزعوم، ويقوم بعمله الخاص. دفعني شِعر جينيه للكتابة، بينما دفعت مخيلته روبرت إلى التصوير.

في عام 1979، غادرتُ مدينة نيويورك متجهة لديترويت. أخذتُ قليل من الأغراض معي، مثل مذكراتي وتمائمي المحبوبة وكتبي. ولّدتْ إعادة قراءة رواية يوميات اللص هاجسًا قويًا لدي للقيام برحلة إلى غويانا الفرنسية بنفسي، وإعطاء جينيه شيئًا من بقايا مستعمرته العقابية المحبوبة، ولو حفنة من التراب والحجارة.

الكلمات كالحجارة، تبدو كل كلمة مكتوبة في رواية يوميات اللص واعية؛ وكحجر من فوقه حجر، يجذبنا جينيه إلى ثالوثه من الخطيئة والإجرام والخيانة

فكرتً في أن أعطي له هذه الأشياء عن طريق غريغوري كورسو، أو ويليام بوروز، فكلاهما يعتبر هذه مهمة جديرة بالاهتمام، لأن جينيه كان يعاني من سرطان الحنجرة، ولم يكن من المرجح استطاعته القيام بهذه الرحلة بنفسه. عندما سافرت مع زوجي الراحل عام 1981 إلى سان لوران دو ماروني، قمت بجمع بعض الأحجار والتربة من الزنزانة الجماعية للسجن المهجور، وحفظتها داخل علبة سجائر كبيرة الحجم، لكني فشلت في تسليمها له. بدلًا من ذلك، وبعد وفاة زوجي، سافرت إلى المغرب وقمت بدفنها في موقع قبر جينيه، بالمقبرة المسيحية في مدينة العرائش.

اقرأ/ي أيضًا: قهوة مع عبد الله زريقة

وبينما كنت جالسة بجوار القبر، جاء طفل وجلس بجانبي. كانت هناك وردة زهرية تتمايل بين الأغصان، قطفها وأعطاها لي. نظرتُ للفتى الصغير بعيون متعاطفة وفكرت في أن جينيه قد تأثر في حديقته الصغيرة بمرقده. همست بعد أن أنجزتُ مهمتي "ها قد أتى الخزي إليك".

الكلمات كالحجارة، تبدو كل كلمة مكتوبة في رواية يوميات اللص واعية؛ وكحجر من فوقه حجر، يجذبنا جينيه إلى ثالوثه من الخطيئة والإجرام والخيانة، والذي تحول إلى الحب عبر قلمه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الإبداع عند عتبات الموت.. تأملات في الأسلوب المتأخّر

الأدب الأفريقي ومسألة اللغة