08-يونيو-2020

الروائي محمد الأصفر

يذهب الروائي الليبيّ محمد الأصفر بعيدًا أثناء تركيبه للأحداث ذات المضامين القريبة والبعيدة داخل روايته "علبة السعادة" (منشورات إبييدي، 2020)، بحيث تحمل في جيوبها ما يلزم لنسف التتابع الزمنيّ للنص، وتكون الرواية، لجهة رؤيتها، مفتوحة منذ البداية وبشكلٍ لا يُمكن عندهُ للقارئ أن يقف عند حدود نقطة زمنية معيّنة، لأنّه لا يُعرف أساسًا ماذا يريد الأصفر: أين يقف؟ ومتى؟ وماذا يريد أن يقول؟ ولماذا يهرب بقارئه من المناطق الضيّقة إلى الحلقات الكبيرة؟

كتب الروائي محمد الأصفر "علبة السعادة" لتكون محطّة من محطّات الثمانينيات الغابرة في ليبيا

كتب الروائي محمد الأصفر "علبة السعادة" لتكون محطّة من محطّات الثمانينيات الغابرة في ليبيا، ومساحة يُسقط ضمنها ما خزّنه في ذاكرته من حكاياتٍ سمعها من الآخرين أو عايشها شخصيًا، ممّا جعل الرواية تأخذ شكل بوحٍ طويل كوّن ضمنه شخصياتها وأحداثها وما تراكم في الذاكرة كذلك من سيرٍ مؤلمة، خاصّة فترة الحصار الذي تعرّضت له البلاد خلال الثمانينيات، وآثاره المدمّرة على المجتمع والفرد الليبيّ، في الوقت الذي تتّسع فيه سياسية الفوضى التي انتهجها النظام الشموليّ في ليبيا بعد وصوله إلى السلطة، وتشتدّ فيه الحروب التي دخلها وراح ضحيتها مئات الشباب.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة محمد الأصفر

لغة الأصفر دون مزجها ببعض البهارات، كالبوخة والمقطر المعتق، لا معنى لها. ومن هنا تحديدًا، يكشف لنا سبب لجوء الكثيرين لهذه المشاريب التي تُعبدهم عن الواقع المُحبط والحياة البائسة، كما يكشف في الوقت نفسه تفاصيل متابعة الناس ومراقبتهم باعتبارها، المُراقبة، جزءًا من تركيبة النظام الذي أعاد "البصّاص"، بما هي وسيلة للتقرّب من السلطة، أو عملًا إجباريًا تفرضهُ السلطات على البعض؛ إلى الواجهة مجدّدًا لتكون أداةً من أدوات تدمير المواطن وجعله رهينة الخوف والقمع بصورة مستمرّة.

يستعيد صاحب "تمر وقعمول" مهنة البصّاص في سياقات تاريخية مختلفة، فيذكر أنّ من أوصل عُمر المُختار إلى الطليان هو بصّاص، ويؤكّد أن المهنة/ المهمّة قد تحوّلت إلى مرض وعاهة منذ زمنٍ طويل داخل ليبيا. وفي سياق استعادته لهذه المهنة، يقف محمد الأصفر عند حرب تشاد التي تمثّل حقبة مؤلمة وشديدة السواد في تاريخ الدولة الليبية، مُستعيدًا معاناة الليبيين بشكلٍ عام في تلك الحرب، والشباب منهم بشكلٍ خاص، باعتبارهم وقود تلك الحرب الخاسرة.

نتعرّف في الرواية على شابّ شغوف بالفنّ والموسيقى التي درّسها، قبل أن يجد نفسه وسط الصحراء والرصاص، حيث سيتعرّف هناك إلى عائلة تشادية، وتربطه بها علاقة إنسانية كانت السبب وراء خروجه من الأسر بعد معركة وادي الدوم.

يتحدّث محمد الأصفر عن فترة الثمانينيات كأنّها العشرية السوداء في الجزائر، حيث السلطات هنا هي الجهة التي تُمارس الإرهاب الذي يصوّره من خلال مجموعة من المثقّفين الذين دخلوا السجن لعدّة أسباب، أهمّها أمسية أدبية في مدينة بنغازي، بالإضافة إلى كونهم يساريين أصحاب رؤية سياسية غير مرغوب فيها، دمغوا بتهمة الخيانة التي فقدت معناها حينما راحوا يغنّون للوطن بعد غارة أمريكية استهدفت البلاد.

يقف محمد الأصفر في رواية "علبة السعادة" عند حرب تشاد التي تمثّل حقبة مؤلمة وشديدة السواد في تاريخ الدولة الليبية

يعود مؤلّف "بوق" إلى الموسيقى، مستعيدًا حادثة حرق الآلات الموسيقية الغربية كونها تخالف النظرية القائلة بأنّ الشعوب لا تنسجم إلّا مع تراثها. عانى المبروك من هذه النظرية حينما كان أستاذ موسيقى ضاعت أحلامه بعدما تحوّل حمل "الجيتار" إلى تهمة كافية للزجّ به داخل السجن، باعتبار الأخير أداة من أدوات تدمير العقل الليبيّ، وفقًا للنظرية السابقة.

اقرأ/ي أيضًا: ثرثرة يسار

عاد المبروك ليجد أصبح الصبح قد فتح أبوابًا مغلقة في البلاد، وأصبحت الموسيقى تُعزف في كلّ مكان، من الفونشة وحتى محمد حسن، وأخرج الكور من جديد وأطلق المبروك العنان لهذه الآلة العذبة الصوت. إنّها الحرية الجديدة، رغم أنها تحت السيطرة، لكنّها متاحة. الممكن أحسن من المستحيل في الدول العميقة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"شمس على نوافذ مغلقة".. ليبيون يكتبون في الظلام

مكتبة طارق الشرع