07-مايو-2023
كتاب وجوه تملأ ساعة المحطة

وجوه تملأ ساعة المحطة

من ساحات المنافي القصية ومقاهيها، من حاناتها التي تُرفع فيها الأنخاب كالقرابين، من مواقف المحطات الغارقة بالوجوه، من لقاءات أحبة نفضوا غبار الوقت عن أثاث الذكريات، من استرجاعها بجلسات ازدحمت بدخان الحزن وكؤوس الملح المتكدس بالحلوق، من دمشق الأرملة، ودرعا العابقة برائحة الموت ولهاث الجنود وحرقة البارود، من مخيم اليرموك حيث المدينة الكهلة عاجزة عن الركض، من إسطنبول وشتاءاتها الخلاسية، يُصدر الشاعر السوري عبد الله الحريري ضوءه/ مجموعته المعنونة بــ "وجوه تملأ ساعة المحطة" عن دار "ابن رشد" لتكون إشارة مرور فاقعة بلون موتنا العتيق المتجدد، وببطء حيلنا لانتزاع الحياة من تحت أضراس الحياة، إشارة توقفنا دهرًا في شارع الشعر، إلى أن تمر الكارثة بحركتها الثقيلة...

في مجموعته الشعرية "وجوه تملأ ساعة المحطة"، فقد اختار عبد الله الحريري المواربة للإفصاح عن مكنوناته، حين تحدث من موضع الناجي/ الراوي

واقعية تلوح من خلف كثبان الرمز والمجاز

قيل في ما سبق إن أجمل الشعر أكذبه، إلا أن تجارب كثيرة أُنجزت في السنوات الأخيرة، أسقطت تلك المقولة "القاعدة" إن صح القول، فبات الانفصال عن الواقع والمصداقية، انحرافًا عن تعاليم الشعر في نظر البعض، وربما حاجزًا يحول بين الشاعر وقارئه أحيانًا. فيما وصلت بعض النصوص إلى المباشرة الصادمة كطرح شعري ما بعد حداثي. أما في "وجوه تملأ ساعة المحطة" فقد اختار الشاعر المواربة للإفصاح عن مكنوناته، حين تحدث من موضع الناجي/ الراوي أولًا، وحين احترف استجلاب الرمز والمجاز ووضعه في موقعه المناسب، إلا أن الواقع بكل ما فيه من ألم وأمل، بقي يلوح من خلف تلك الكثبان معطيًا نصوص المجموعة سمات الشاعرية والشعورية في آن...

ثمّة خرافٌ ترعى حشيش القماش،

وصغارٌ يلعبون في رغوة اللّون؛

أعطاهم الرّسّام مفتاح باب اللّوحة الخلفيّ.

لم أكن زائدًا عن مهرجان الطّفولة

لكنّ شهوة التّراب شدّتني

فغرستُ فيه قدميَّ،

وانتظرتُ

حتّى صارتا سروتين إلى جوار البيت

حيث لا أب أو أمّ

في انتظار عودتي.

الهرولة بين جرحين:

يقول رسول حمزاتوف: "إن الشعراء ليسوا طيورًا مهاجرة، والشعر دون التربة الأم شجرة بلا جذور وطائر دون عش". وعلى الرغم من نجاة الحريري من بين براثن الوطن، إلا أنه لم ينسلخ عن بيئته الأم، فظلت البيوت التي تحمل رائحة الوقت وجريانه البطيء، وسيرة شجرة التوت، الشام التي تمر بين الأحاديث كمرور السكين، الأصدقاء الذين يكفي وقت الضحى كاملًا لتفقدهم، جاثمة كجرح طازج يحرق مواضع القصيدة كلما انكبت على ذهنه. كما على الرغم من أنه ألقي عبثًا في بيئة جديدة، لم يتنكر لها أيضًا، فنراه من خلال معظم قصائده يراوح بين جرحين، يكابر بلملمة القبور المندثرة بين أصابعه، وبإخفاء المدن المهدمة في وجهه، فيقول للحرب:

"كنتِ

وللشّجرة: كوني خيمتي وعمقي

العمق الّذي هو ذروتي

ذروتي موتي".

عتبة نحو الرؤيوية

ومثلما وقع الشاعر بين جرحين، راوحت نصوصه أيضًا بين السرد الشعري والتكثيف والإيقاع (الذي اتضح مثالًا في المقطع الأخير، وربما يعد وقوعًا في الوزن الذي حضر في دواوينه السابقة)، بين المشهدية التي بان جليًا خضوعها للاشتغال الحِرفي والبحث في المفردة وتركيب الصورة، والرؤيوية البكر. ورغم استعانة الحريري بالمفردة غير الدارجة واتكائه زمنيًا على مرحلتين "الماضي والحاضر" أحيانًا، وبنائه العالي للجملة أحيانًا أخرى، إلا أن تركيب النصوص بشكل عام اتسم بروح عصرية قريبة من المتلقي في وقتنا الحالي، ومن المؤكد مستقبلًا أيضًا.

كلّما أجفل الحزن قلبكَ الحرون

وأشعل شهوة الماء

في جفاف الشّفتين

تعطي الحبَّ اسمَ كلّ شيء.

وليس بعيدًا عن مواقفه الواضحة من "الحياة، الوطن، الغربة، الحرب، العلاقات الإنسانية والأصدقاء"، يبدي الحريري موقفه الخاص والعام من الحب أيضًا، فهو الخيمة / المأوى أحيانًا، والمتأخر منه؛ وحشة وخوف، ثم يسأل بيأس: "كيف أنجو إذن، وفمك ما زال عالقًا في شفتيّ؟" ولأن ليس للناجي من الحب سوى الوقوع فيه، فيكمل: لا امرأة إلا حبيبتي. بهذه الرؤية التي تنسحب عمومًا على كثير من البشر يطلعنا الشاعر أيضًا على التحامه مع الآخر، ومشاركته عثراته ومخاوفه، فتتضح تلك التشاركية من خلال مراثيه لأصدقائه، ففي متن المجموعة مرثيات إلى أنس عمارة والحكم النعيمي، مرثيات أقرب إلى الحوار مع الآخر الغائب، يعيد فيها سرد الذكريات المشتركة واللحظات التي سُرقت من فم الوقت على عجل والمحبة المخبئة في طيات القلب والظاهرة في السطور:

 أكلّما بسق الحظّ

في وجه أحلامنا السّكّريّة

كسرتَ جِرار اللّون

فوق رؤوسنا،

واستبدلتَ بخطوط ملامحنا

طرقًا لهربٍ لا ينتهي؟!

أيّها الوهميّ كالمرآة..

عدّهم على أصابعك السّبعة

لأيّام الأسبوع

فهُم في الحانة،

وخاتم الحبيبة يكفي لليلٍ طويلٍ؛

هي كانت ستهجرك على أيّ حالٍ

فابتعْ به أصدقاء

لخمرةٍ لا تملك ثمنها.

لا تحضر السجية الشعرية بصوتها المألوف في "وجوه تملأ ساعة المحطة" وخصوصًا على مستوى السبك، بل تظهر ملازمة للتعمق سواءً في الفكرة أو اللغة والبحث عن دلالاتها وإيحاءاتها مهما صغُرت. وهذا ما يقرب القصيدة خطوتين نحو الخلود.

القارئ لمجموعة "وجوه تملأ ساعة المحطة"سيلاحظ هشاشة الروح لدى الشاعر، وكمّ الخيبات والانكسارات واليأس الذي حاصر مشاعره في ماض قاسٍ وحاضر لا يقل لا يقل عنه قسوة

بين هشاشة الشاعر وانتصار قصيدته للحياة

القارئ لثلاث وعشرين قصيدة "وهي مجموع قصائد الديوان" سيلاحظ هشاشة الروح لدى الشاعر، وكمّ الخيبات والانكسارات واليأس الذي حاصر مشاعر كاتبه، في ماض قاسٍ وحاضر لا يقل عنه قسوة. ولكن في مقابل اليأس الذي اتسمت به دواخل "الحريري" وطفى على وجه قصيدته، ورغم أننا -كما قال-: ملوك القاع، نشتهي سيجارة محشوّة بالنّسيان. يعود ليوقظ مفردات الأمل بالحياة حين ينهي ديوانه بمقطع:

من يقرأ حجر الوقت

إلا ضليع المسافات؟

أيّها الموت الّذي على هيئة موت

ما زال في القلب متّسع للحياة...

 ويؤكد أن القلوب التي تيبست بفعل عوامل كثيرة ليست آخرها الحرب أو المنفى، لا بد لها أن تعود للتبرعم، حتى وإن كان ذلك في تربة غريبة.

عن الديوان والشاعر

"وجوه تملأ ساعة المحطة" ديوان صدر مؤخرًا عن دار ابن رشد. جاء في 111 صفحة من القطع المخصص. عبد الله الحريري كاتب وشاعر وطبيب سوري من مواليد ريف درعا عام 1983. صدرت له مجموعتان: "الشهيق إلى الرئة الحرام" عن دار فضاءات عام 2016، وفي عام 2018 صدرت مجموعته الشعرية الثانية عن نفس الدار بعنوان: "لا تنس قلبك حافيًا" ويكتب في عدد من الدوريات والمنصات العربية في الشأنين الثقافي والسياسي.