21-أبريل-2022
الشاعر والروائي عباس بيضون

الشاعر والروائي عباس بيضون

قرأت عبّاس بيضون في قصائد متفرّقة، ولاحقًا في أعماله الشّعرية الصّادرة عن المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر. بعد هذه القراءة قد تكون هذه فرصة مؤاتية للاعتراف. ليس عباس بيضون أحد شعرائي المفضلين، ولم يكن يومًا أحد الذين أُغرمتُ كليًا بهم. لم يبهرني بالمعنى التقليدي للكلمة. إنّما بإبهار خاص، هو بذاته إبهار المختلف والآتي من مكان فجٍّ عميق.

من يقرأ قصائد عباس بيضون يجدُ أنّها نافذة مفتوحة على المجاهرة بحبّه وخوفه، بحنينه وشتاته. هيَ لا تنتمي شكلًا ومضمونًا إلى حالة ظاهرة أو مدرسة شعريّة محدّدة

هذا الكلام بشكل أو بآخر يعني أنّه لم يدعُني إلى التأثر به أو الدّخول في محاولة تقليده، كما وقع فيها كثيرون. لم يقل يومًا ما قاله غيره: ها أنا أكتب. بمفرده شقَّ طريقه تلك ومشاها وحيدًا.

من يقرأ قصائد بيضون يجدُ أنّها نافذة مفتوحة على المجاهرة بحبّه وخوفه، بحنينه وشتاته. هيَ لا تنتمي شكلًا ومضمونًا إلى حالة ظاهرة أو مدرسة شعريّة محدّدة. كانت القصائد التي أتلوها دائمًا خارج السّرب، منه تخرج وإليه تعود. إنّها أشبه بالأنفاس أو لنقل الهذيانات. ولماذا لا نقول أنّها ذاتها تلك الانتباهات لذاك المسرنم يُرتِّلُها أثناء مشيه إلى غرفته الخاصّة.

لا يبدو السّؤال داخل قصيدة بيضون سؤال الشّاعر المحترف. إنّما سؤال أنا الإنسان الفطريّ في زمن ليس زمنه. سؤال الطّفل الذي يعود للحضن أو ليسكن مدينته الأولى. تساؤلٌ بشجن أشدّ وحكمة أبلغ.

هناك شيء من الحنين الخائب في قصيدته، حنين عارم دافعٌ للاستدلال على بدايات الشّاعر. على أحجار الطّفل الّذي ينحتُها ليصنع نصّه الأوّل. نصٌّ يُكتَبُ باستمرار السّعي لا بالانتهاءِ من قول الشّيء كلّه.

عباس المُحاط بكلّ هؤلاء الّذين جعلوهُ وحيدًا، يجدُ أنّه أكثرَ من واحدٍ يضيعُ في نفسِه، كلّما علا البحر على سلالمه الواطئة. تبدأ القصيدة عنده دونَ عتبة بيّنة لتعود وتنتهي دون صفّارة إنذار. فتشكّل بذلك بكاءً متقطعًا ومغريًا بفعل الوعي لا النوستالوجيا المضيعة فحسب، ذلك الوعي الّذي يختزله شاعرٌ مثله بعبارة قد تبدو متحايلة على اللّغة وتضعُ كلّ وقتها في المراوغة. لتعود وتصوّر المشهد الّذي تصنعه في الآن نفسه.

لنضع بين قوسين هذه البطاقة التعريفيّة الصّغيرة: شاعر صنعه أب لبنانيٌّ وأم عراقيّة. إنّها عبارة محيّرة. شاعر نصفه لبناني ونصفه الآخر عراقيّ. تحملُ في طيّاتها ألقًا شعريًا هائلًا.

دواوين عباس بيضون، لو صحّت تسميتها بدواوين، فهذه الكلمة تُطلَقُ من باب شيوع التسمية؛ يمكنُ القول عن دواوينه أنّها مجموعات، أو قصيدة واحدة. في كلِّ مؤلَّفٍ له نرى عملًا جديدًا وثيمة مغايرة. نتاجًا أقرب ما يكون إلى الفيلم منه للقصيدة.

عباس المُحاط بكلّ هؤلاء الّذين جعلوهُ وحيدًا، يجدُ أنّه أكثرَ من واحدٍ يضيعُ في نفسِه، كلّما علا البحر على سلالمه الواطئة. تبدأ القصيدة عنده دونَ عتبة بيّنة لتعود وتنتهي دون صفّارة إنذار

البحر والمدينة ومشهد الخروج من المدينة أو من الشّعر وعليه، من القصيدة أو من الطّفولة، لأنّ أيًا من تلكَ الرؤى المطلقة لا يمكننا أن نعتبره محسومًا. القلق يرافق القارئ والشّك واللايقين. لا يتوانى شاعر مثله أن يهب قارئه عنوان القصيدة نفسها ومفتاحها.

ندخلُ القصيدةَ الوعرة والمختلفة على مقربة من أصداء حطّابين يخنقون النّيران. وأولاد يكسرون الأعماق ومرايا تقوم على اختلاق المدينة واختراقها في كلّ مرّة.

عبّاس بيضون.. بكلماتكَ اليوم نعودُ إليكَ راهبين راغبين. عودة الولد الضّالِّ والأب الرّحيم.

"ها نحنُ بالكلمات الّتي تعلّمناها منكَ، لا نستطيعُ أنْ نصفكَ".