12-مارس-2023
عبد الله الحريري ومجموعته الشعرية

عبد الله الحريري ومجموعته الشعرية

صدر حديثًا عن "دار ابن رشد للطباعة والنشر" المجموعة الشعرية: "وجوه تملأ ساعة المحطة"، وهي المجموعة الشعرية الثالثة للشاعر السوري عبد الله الحريري، وجاءت في مئة وإحدى عشرة صفحة تضم ثلاثًا وعشرين قصيدة نثر.

ومما جاء في تقديم الدار للمجموعة: "تمتاز القصائد بحس تأملي عميق وتصور فكري واضح لقضايا عديدة، وهي محاولة لسبر غور النفس الإنسانية وما يطرأ عليها من تغيرات في الموقفين الأخلاقي والعاطفي في طرح واضح، ولكنه غير مباشر، للإيجابي والسلبي واختلال التوازن بينهما في النفس الإنسانية في ظرف الصدمة".

الأماكن والأشخاص أبطال ظاهرون في المجموعة، فالحريري ينبش في ركام المدن بحثًا عن ذاكرة مهددة بالإمحاء، ليعيد كل شيء إلى مكانه ويبني صوره في لحظة الانهدام حيث المدينة عجوز عاجزة عن الركض والأصدقاء لا يعرفون ثأرهم. تتأرجح عوالم المجموعة بين الرمل والماء، بين المدن المهدمة والمدن التي تبصق الغرباء، فتبرز الحرب في دور البطولة الرئيسي، حرب لكل شيء وعلى كل شيء، حرب قديمة لا تتوقف من أجل البقاء ومن أجل الفكرة في آن، كأن الشاعر كان الناجي الوحيد وأخذ على عاتقه ترديد الحكاية في تجواله المديد.

ينبش عبد الله الحريري في ركام المدن بحثًا عن ذاكرة مهددة بالإمحاء، ليعيد كل شيء إلى مكانه ويبني صوره في لحظة الانهدام حيث المدينة عجوز عاجزة عن الركض والأصدقاء لا يعرفون ثأرهم

تعزو دار ابن رشد اهتمامها بما يكتبه عبد الله الحريري "لأنه من الجيل الشاب الذي خاض معترك الربيع العربي بكل فصوله ابتداء من المظاهرات، وتجارب الاعتقال العديدة ومن ثم الحصار، ومن بعده التهجير قسرًا".

يذكر أن عبد الله الحريري طبيب من مواليد محافظة درعا جنوبي سوريا، وصدرت أولى مجموعاته الشعرية أثناء حصاره في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، حيث عمل طبيبًا ميدانيًا في مشفى فلسطين آنذاك.


من الكتاب

1

المدينة لا تستطيع الرّكض

تيبّست ركبتاها، وانحنى ظهرها

في إسمنت سقوفها الرّقيقة تآكلت قضبان الحديد

قالوا:

"تقينا مطر السّماء وثلجها"

قبل أن يموتوا تحتها.

من فوقها مرّ الجنود

جثوا على ركبهم.. وهم ينبشون القبور

بالأظافر وسكاكين الفاكهة

بحثوا طويلًا عن أسرارٍ يحرسها الجنّ

لكنّ العظام خلعت لحمها، ولم يعترف الموتى بموتهم،

وما زال الجنود الجبناء يخشون جثثًا حيّةً تطارد نومهم.

. . .

ووجهكِ كان حلوًا

أقسم بالوقت البطيء

والأشهرِ الّتي استعارت أسماءَ الأصدقاء

إنّ وجهك كان حلوًا،

وأوّل نيسان لم يكن كذبة..

ففيه صفعني السّجّان أوّل مرّةٍ،

وفيه أهالوا التّراب على وجه أنس

قبل أن أرى ثأره في عينيه

زرعوه في القبر

فنمت عشبة الموت في قلبي..

 

2

ملقيًا خيبة البدويّ، على كتف السّور

الّذي أكل ملامحه الجذام

يسرَبُ في ريقي ذوبُ القهوة الأخير..

وخزُ الهال يخبو مع التماع العاج

بين البوسفور والدّردنيل،

على صفحة ماء غسل دماء القارّات

في حربها على قلب الفراشة..

هنا بنى الملوك عروشهم، وبدّلوا

الأديان، كما يبدّلون التّيجان.

هنا انزلق ذهب المريميّة

من أيادي الرّهبان، وانسرحت

روحها.. بخارًا أزرقَ

من أغلال قبّة الوصايا.

هنا غرس الهلال أقدامه العاجيّة

على الذّرى

كأنّها مرايا.

هنا تَشارك الأعداءُ قبورَهم،

ولم يديروا لبعضٍ ظهورَهم،

ثمّ وقّع الأمراء هدنة كاذبة

لتأخذ الحرب قيلولة

ويلتقط الجنون أنفاسه.

هنا تتمشّى الهزائم والانتصارات

كالأصدقاء القدامى،

يضمرون ثأرهم في الابتسامات..

 

3

لا تغري لغة الشّمس حلمًا

أحمله كالإرث عن ملوك الرّمال

الّذين حكّوا بأظافرهم حَجَر الكلام،

حتّى إذا صدّقوا ظلّ غيمةٍ

ذرتْهم كالرماد..

لا بدّ من حجرٍ مضيءٍ بين أوهامنا،

لنوقن

أنّ صحراء الذّاكرة أصدق

من حدسنا..

وأنّهم تركوا أسماءهم

لغةً للسّؤال.

 

في وجيب المدن الخضراء

تلوي النُّوق الهزيلة أعناقها،

ونحن نساومُ صنوبرةً على أيلولها..

أنخلع جدب البلاد

كما يخلع القمح قشرته؟!

لنذكرِ الشّرقَ وشمسَه المُحالة

حين حشرج الأطفال بالسّارين،

لنذكرِ (السّهم في خاصرة الغزالة)

حين توسّلَ الكُردُ الجنودَ المنسحبين

لعلّ جهنّميةً تنبت

من أصيص بين أكتافنا

تعترش، كالمجنونة، عُرى قميص الأرض

عائدة إلى الرّمل الذي علّمنا الحنين.

ليس على سيرة الجرح أن تنتهي

وليس (على النّرجسة

أن تطلع من مرايا) الأنين.