26-أكتوبر-2023
(Getty) مشهد من دمار غزة

(Getty) مشهد من دمار غزة

كنت طفلًا ألعب أمام البيت مع مجموعة من أبناء الجيران حين قطع لعبنا صاروخ أمريكي سقط بالقرب منا وجعل الأرض تمور من تحتنا. اكتوت قلوبنا حينها برعب نتحسس حرارته إلى اليوم، ولم نسمع حين عُدنا إلى بيوتنا مترنحين مثل السكارى غير كلمات متقاطعة، وهكذا بدأت حياتنا في العراق الجديد الذي فتح ستارة مسرحه بسقوط الصواريخ والجثث الملقاة في الشوارع.

كما أتذكر بينما أشاهد أخبار الحرب الهمجية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، والصواريخ التي تطلقها طائراته التي تدك البيوت والمستشفيات فوق رؤوس ساكنيها، ذلك اليوم الذي كنت فيه قرب النافذة، ليلًا، أقوم بلصق الزجاج بالأشرطة اللاصقة لتجنب خطر تهشمه عند وقوع أي غارة، لكن سرعان ما انفجر الزجاج في وجهي بعد سقوط صاروخ في الحي الذي أسكن فيه. غادرت حينها الغرفة مسرعًا بوجه ترك فيه الزجاج نتوءات منقوعة بالدم.

أعدت بينما أتابع أخبار الحرب على غزة النظر في شريط ذكرياتي عن حرب العراق، فأصحبت أحداثه عبارة عن فيلم فقد لذة المشاهدة والإثارة من جديد مقارنةً بما يحصل للشعب الفلسطيني. وسألت نفسي: هل ما يحصل إرهاب أم ماذا؟ وإذا كان إرهابًا، فأين الدول والمنظمات التي تدعي محاربته من أجل أن يعم السلامُ العالمَ كما تزعم؟ لمَ لم أسمع مصطلح الإرهاب خلال هذه الحرب؟ لمَ أسمعه فقط يطلق على من يدافع عن نفسه ويريد تحرير أرضه من احتلال امتد لـ75 سنة، ويغيب عن المحتل الذي ارتكب كل الجرائم غير مكترث بشيء؟!

وضعت الدولة نفسها خارج مفهوم الإرهاب، فكل ما يصدر عنها لا يعد عملًا إرهابيًا حتى لو قتلت الآلاف، وهشّمت رؤوس الأطفال وقطعت المياه والكهرباء، وألقت القنابل على المستشفيات

هذا العدوان الإرهابي على فلسطين، والمدعوم من دول الغرب، كان بمثابة درس فلسفي عميق أعاد لنا النظر في كل شيء: الليبرالية، حقوق الإنسان، الأمن الجماعي، الإنسانية.

صرنا نحذف أكثر مما نضيف، تفسّخت هذه المفاهيم في مقبرة الأفكار ولم تعد رائحتها تطاق، صرنا نهرب من أنفسنا بحثًا عن أفكار جديدة تشكّل لنا أرضيةً نقف عليها، بعيدًا عن تلقين الإعلام الغربي ومعلّباته الفكرية.

ومن ضمن المفاهيم التي أرقتني منذ بدأ العدوان على غزّة هو مفهوم "الإرهاب". ما هي معاييره ومحدداته؟ ولماذا لا يطلق على الدول والأنظمة السياسية التي تمارس أعمالًا إرهابية؟ ولماذا لا يطلق على الدول التي ترعى الجماعات الإرهابية؟ على سبيل المثال، تعرِّف وزارة الدفاع الأمريكية الإرهاب بأنه: "الاستعمال والتهديد بالاستعمال غير المشروع للقوة، أو العنف ضد الأشخاص أو الأموال غالبًا لتحقيق أهداف سياسية أو دينية".

وتعرِّفه وكالة المخابرات المركزية الأمريكية: "التهديد الناشئ عن عنف من قبل أفراد أو جماعات". وبعض الكتّاب الإسرائيليين يعتمدون على هذا التعريف، وغالبًا ما يكررونه في كتاباتهم: "الاستعمال المنتظم للعنف من قبل أفراد أو جماعات أدنى من الدولة". وعلى هذا المنوال جاءت بقيةُ التعاريف التي تتفق على إخراج الدولة من هذا المفهوم.

وهكذا كانت هذه التعاريف محملةً بأبعاد سياسية وأيديولوجية قائمة على الـ"نحن" والـ"هم".

فأنصار هذه السردية، وخصوصًا الولايات المتحدة وإسرائيل، يطلقون وصف الإرهاب على كل ما يهدد العالم الغربي فحسب، ويعتبرون أعداءهم من البرابرة والهمجيين، أولئك الذين هم خارج سرب التحالفات ويخوضون معارك من أجل تحرير بلدانهم ومحاربة الاستبداد والاستعمار.

ولذلك كانت الدولة خارج مفهوم الإرهاب، فكل ما يصدر عنها لا يعد عملًا إرهابيًا حتى لو قتلت الآلاف، وهشّمت رؤوس الأطفال وقطعت المياه والكهرباء، وألقت القنابل على المستشفيات، ومارست أعمالًا عنصرية وتطهيرًا عرقيًا.

وحتى لو قتلت 1046 طفلًا في 10 أيام مثلما يحصل الآن في فلسطين، وحتى لو تم وصف شعب كامل بأنهم حيوانات بشرية ويجب أن يعاملوا وفق ذلك! يظل مفهوم الإرهاب صامتًا مفقوء العينين، غاطًا في سبات عميق، لا يقطعه سوى صوت رصاص المقاومة وحركات التحرر، فيسارع إلى وصفها بالإرهاب في ماكينته الإعلامية بغية تجريد "الآخر" من إنسانيته وشرعيته، بينما يُضفي الشرعيةَ على استخدامه للعنف ضده. كما نجد من خلال التعاريف السابقة كيف عملت الإدارة الامريكية على نحت تعريف يجعل الجماعات التي تخوض حربًا في الوكالة عنها في منأى عن شبكة مصاديق هذا المفهوم.

بدأت هذه المحاولات منذ عهد حكومة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان (1911 – 2004)، إذ صيغ مفهومُ الإرهاب بهذا الشكل: إن "الإرهاب" شكل من أشكال العنف السياسي غير الأخلاقي الذي لا يمارسه سوى "الآخرين". وإنّ صياغة تعريفٍ جامعٍ مانعٍ يمكن أن يصنف أمريكا كدولة إرهابية وداعمة للإرهاب، مثل ممارساتها في فيتنام وأفغانستان والعراق تشكّل "إرهابًا من قِبَل دولة".

وبناءً عليه، ظل التركيز فقط على عنف الجماعات الصغيرة أو الأفراد، في حين جرى تجاهل العنف واسع النطاق من قِبَل الدول، على الرغم من أنه أكثر أثرًا وانتهاكًا للقانون الدولي الغائب الأبرز في تعريف الإرهاب بعد غياب الدولة، حتى تبقى مسألة انتهاكه خاضعةً للمزاجيات.

ظل مفهوم "الإرهاب" مطاطيًا إذ بإمكانه أن يعتبر ما يجري في أوكرانيا احتلالًا، وما يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، صاحب الأرض والتاريخ، دفاعًا عن النفس!

كانت الولايات المتحدة تدعم أنظمة عديدة قائمة حول العالم من أجل احتواء الاتحاد السوفييتي. ولكنها أيضًا، وللمرة الأولى منذ بداية الحرب الباردة، كانت تدعم العديد من الأطراف غير الحكومية لإسقاط الحكومات الموالية للسوفييت من أجل "تحطيم الشيوعية".

كما دعمت عصابات "الكونترا" في نيكاراغوا، و"المجاهدين" في أفغانستان. ناهيك عن العمليات التي نفذها مناهضون للرئيس الكوبي كاسترو، ودعمها لشركة "بلاك ووتر" التي ارتكبت أعمالًا إرهابية في العراق. إضافةً إلى دعمها لإسرائيل وإمدادها بالسلاح والأموال لممارسة إرهابها ضد الشعب الفلسطيني كما يحدث الآن.

ومن أجل إيجاد مخرج من هذا الحرج الذي يصمهم بإرهاب الدولة، رفضت الولايات المتحدة ذلك وذهبت إلى أنَّ "الأعمال التي يرتكبها أفراد أو مجموعات تدعمها دولة، هي نفسها أفعال الدولة، وبالتالي لا ينبغي اعتبارها أعمالًا "إرهابية"! كما يمكن أن يلاحظ، على ضوء التعريفات السابقة، الحرصُ الكبير على قضم قطعة كبيرة من التاريخ، بحيث يبدو التعريف حديثًا ولا يتجه إلى الوراء، فتشمل دلالاته أعمالًا لا تُمحى من ذاكرة الشعوب، قامت بها الحركات الاستعمارية، فماذا يمكن أن يُسمى الاستعمار الأوروبي للأمريكيتين والاعتداء على السكان ومحوهم إن لم يكن إرهابًا في وقتنا الحاضر؟!

وأنكى من ذلك، نجد أن حركة النازيين الجدد، وهي حركة متطرفة عنصرية سياسية أيديولوجية توصف بالنازية، لم تُصنّف كـ"إرهابية". كما أن الإعلام الغربي يحاول خلق تبريرات تحسِّن من صورة الجماعة التي ارتكبت أعمالًا وحشية ضد الانفصاليين من الشعب الأوكراني، على الرغم من الجماعة صريحة في اتباعها أهداف ومبادئ الحركة النازية! ونالت الحركة الاعتراف من قبل الحكومة الأوكرانية علنًا ورسميًا.

ومن المؤكد أن الدول الاستبدادية ترعى هذا المفهوم المبستر والموارب، وتضخ فيه الدماء لأنها بطبيعة الحال تسعى إلى القفز على الحقيقة، وتحاول لصق تهمة الإرهاب فقط بحق خصومها المطالبين بالحرية والعدالة، تأثرًا بالإعلام الغربي وآلية تقديمة لمفهوم الإرهاب.

يقول كريس هيدجيز في كتابه "الحرب حقيقتها وآثارها": "إننا ننظر للإسلام نظرة مشوًّهة تنطوي على عنصرية واضحة المعالم، وتصف جميع المسلمين بأنّهم ميَّالون إلى العنف ومعادون للتقدم فضلًا عن كونهم منغلقين في تفكيرهم. إنَّ التصدي لمثل هذه النظرة وحتى محاولة فهم الظلم التاريخي الذي ارتكبناه بحق من يُعادوننا اليوم صار ضربًا من ضروب الخيانة الوطنية".

وبناءً عليه، ظل مفهوم "الإرهاب" عائمًا مطاطيًا بشكل متعمد ومحمّلًا بدلالات سياسية وأيديولوجية يحدد مصداقيته الطرف الأقوى، إذ بإمكانه أن يعتبر ما يجري في أوكرانيا احتلالًا، وما يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، صاحب الأرض والتاريخ، دفاعًا عن النفس!

لذلك تصدرت الصحف ووسائل الأعلام الغربي كلمة "Terrorism" التي استُخدمت في وصف المقاومة الفلسطينية، التي حاولوا شيطنتها من خلال بث كذبة أنها تقطع رؤوس الأطفال وتغتصب النساء.. إلخ. لكن الأكاذيب سرعان ما كُشفت وسقطت، كما أن ما روّجوه عن المقاومة تمهيدًا لعملياتهم الإرهابية، نراه أمرًا واقعًا عند المحتل الذي يدافعون عنه.

وما العجب؟ تأسست "الأمم المتحدة" على أساس القوة وهيمنت عليها أمريكا، وحتى نقاط التصويت والاعتراض وحق "الفيتو" مبنية على ذلك. لقد أصبح هذا الكيان يشبه الإله الذي يرى بعين واحدة، ولا يهمه أن يدير هذا العالم بالأكاذيب، فهذه الأكاذيب عنده قد تكون نوعًا من الحل!