14-أكتوبر-2023
علم فلسطين

"المُستعمِر هو من يختار طريقة المعركة" نِلسون مانديلا

 

لم يتفاجأ المتابِعون بنبأ مواجهة أخرى بين الفلسطينيين والإسرائيليين. المؤشّرات كانت تُشير إلى مفاصَلة أخرى وشيكة. ففي السنوات الأخيرة سيطر اليمين الصهيوني، ولم يعُد يُخفي نيته في امتصاص ما تبقّى من فلسطين، وبالأخصّ في الضفة الغربية. أمّا غزة فعُزِلت في أكبر سجن بشري لخنق شعبِها بكماشتين: عدوة وصديقة. أمّا عرب الداخل فقد ثاروا بسبب تفاقم عملية التهويد ومثابرة فعل الاستعمار ضدّهم، رغم وعود المواطنة والقانون. أمّا اللاجئون المشتّتون في العالم فرغم تشبّثُهم بحقّ العودة فإنّهم ما زالوا يُمنعون من أرضِهم فيما تُعطى حقوقها تلقائياً للمستوطنين اليهود الأجانب. وقد وجد الشعب الفلسطيني نفسَه يُكافِح ليس فقط ضدّ آلة القتل الإسرائيلية، بل وضدّ تصفيتِه من الدول العربية التي وجدت أنّ التغيرات المتسارِعة لم تعد تعطيها ترف الالتزام بقضيّة تاريخية كالقضية الفلسطينية.

-2-

غير أنّ إقلاب المعادَلة الذي حصَل في فلسطين في السابع أكتوبر، والذي بموجَبه صار الفلسطينيون لأوّل مرّةٍ مهاجِمين، والإسرائيليون مدافعين، فاجأ الجميع. ففي الغرب، حيث تبدّلت الوشائج في العقدين الماضيين وظهَرت لأوّل مرّة حركة شعبية واسِعة ترفض الوحشية الإسرائيلية، قُرِئت الهجمة بالتلقّي الرسمي. ففي أميركا سُوّقت للشارع أنّها نوعٌ من الحادي عشر سبتمبر؛ وفي فرنسا قُرِئت أنّها نوعٌ من هجمة  الباتاكلان؛ وفي بريطانيا لم يخطِئ البعض رمزية  7/10  و7/7. وسرعان ما استسلَم الكثيرون لهذا الكاريكاتور. وحتّى ناسٌ تقدميون عُرِفوا بالنضال في القضية الفلسطينية كإلهان عمر ومهدي حسّان، وحتّى كورنيل وَست، قد عبّروا فجأةً عن تأييد (ربّما سيكون مؤقّتاً) لإسرائيل.

إنّ القضية الفلسطينية هي جزءٌ من هذا التاريخ، تاريخ الاستعمار، وبالأخصّ تاريخ الاستيطان الأوروبي. وهذا التاريخ قام على فكرة التفوّق العرقي، الذي يُخوّل للمحتَل أرض الأهلي

ومن السهل أن يقَع سياسيون وصحافة كالأوّلَيْن في سذاجة الفهم الأحداثي للصراع. ولكن كيف يُعقَل هذا في حقّ كورنيل وَست، أحد السلطات الأخلاقية في عصرنا، والذي ما فتئ يخِز ضمير العالم بحصافتِه ومعرِفته واستنارته؟ فمن الجلي أنّ قضية الاستعمار ليست قضية حدَثٍ واحد. وهو تعقيد ينطبِق على يومياتها. فحرب التحرير الجزائرية والفيتنامية، والتي لم يعُد هنالك شكٌّ أنّها من أشرف النضالات ضدّ الاستعمار، قامت على استهداف المستوطنين الذين -مثلهم كمثل المستوطنين الإسرائيليين- فرضوا أمرَهم بالسلاح وبالتنظيمات الإرهابية كحركة الجيش السرّي OAS، ناهيك عن عملائهم الحَرْكيين. كانت المقاومة الجزائرية تستهدِف تجمّعات المستوطنين بالقنابِل المدسوسة والموقوتة كوسيلة لزيادة كلفة الاستعمار. وكان المستوطنون الفرنسيون، الذين لبثوا في الجزائر مائة واثنين ثلاثين عاماً، يُطلِقون عليها مصطلح "الإرهاب"، الذي وإن أعيد إنتاجه في غابر السنين في سياق القانون الدولي إلاّ أنّ له جذوراً واستخدامات استعمارية تهدِف لنزع الشرعية عن الوسائل الوحيدة لمقاومي الاستيطان. ليس معنى هذا أنّه لا يوجد إرهاب وأن كلّ الحروب سواء. فبالنهاية فإنّ إسرائيل تقتُل في كلّ مواجهة عدداً أكبر من المدنيين من جميع خصومها. وإنّما يعني أنّ مقاومي القرن العشرين رأوا في المستوطنين طليعةً حربية بحكم أنّ حياتهم تقوم على فِعل حربي هو الحلول محلّ الأهالي، وهو ما تعكسه الأيديولوجيا الصهيونية عن "أرضٍ بلا شعب لشعبٍ بلا أرض"، والتي بموجبها يمحى الشعب الفلسطيني من أرضِه.

وما قام به الجزائريون والفيتناميون كان نموذج الثورات الإفريقية ضدّ الاستيطان في جنوب إفريقيا وزيمبابوي وكينيا، من خلال انتفاضة ماوماو 1952-1960، وحتّى منذ هبّة الهَريرو في ناميبيا 1904 التي قامَ إزاءها المستوطِنون الألمان بإحدى أوائل المذابِح الحديثة والتي راحَ فيها 80% من الأهالي (وكانت إلهاماً لهتلَر في مشروعه التطهيري ضدّ اليهود). إنّ القضية الفلسطينية هي جزءٌ من هذا التاريخ، تاريخ الاستعمار، وبالأخصّ تاريخ الاستيطان الأوروبي. وهذا التاريخ قام على فكرة التفوّق العرقي، الذي يُخوّل للمحتَل أرض الأهلي. ولكنّه أيضاً تاريخٌ يقوم أيضاً على الغفران الذي قامَ به المثقّفون- المفترض أن يكون ضمير العالَم- لهذا الاستعمار. إنّه غفران للإبادة والتهجير والتطهير العرقي والعزل العنصري وتشريد الشعوب وجرائم الحرب المستمِرّة، التي يعترِف بها جنرالات إسرائيل بعد تقاعدهم. وهذا التاريخ البغيض ما زال حقيقة يومية في فلسطين. والسبب الذي يُسهّل هذا النسيان، حتّى على بعض المثقّفين الأحرار، هو القراءة الأحداثية، قراءة عناوين الأخبار، بدل القراءة التاريخية للاستعمار وهو نتيجة اضمحلال الوعي بحقيقة الاستعمار.

-3-

في مواجهة هذا النسيان لا تمتلِك القضية الفلسطينية إلاّ أن تُعيد بعث نفسِها- كما تفعَلُ في كلّ مرّةٍ- من رمادِها. تعود محاولات قتلها طبعاً إلى الاستعمار البريطاني، الذي بخلق "وطن قوميً" للصهاينة، أي للقوميين الاستعماريين اليهود، قد قبِل سردية الأرض الخالية. ورغم تعدّد السرديات حول السياسات البريطانية، إلاّ أنّه في 1936-1939 تحالف البريطانيون مع عصابات الهاغناه والشتيرن الإرهابية لإفشال الثورة. ومع هذا مُهّد للنكبة. ولعلّه لا يمكن اختزال تفسير موقِف كورنيل ويست بالمرّة الثانية التي وُئد فيها الحُلم الفلسطيني. ذلك أنّ النكبة، والنكسة أكثَر، شهِدت تعاطُف كثيرٍ من الأميركيين السود مع إسرائيل، بعكس مواقِفهم الجذرية اليوم، إذ صدّقوا الدعاية أنّ 48 كانت معركة داوود الصغير، الذي هو إسرائيل، ضدّ جالوت العملاق، الذي هو الدول العربية الثمانية. وغني عن القول أنّ هذه الأسطورة مفنّدة. فالمجتمع الصهيوني الاستيطاني في 1948 كان أكثر تنظيماً ومدنية وتسليحاً من العرب الذين قدِموا من مجتمعاتٍ أهلية مزارعة (باستثناء الأردنيين الذين كانوا إبّانها قادرين عسكرياً على مواجهة إسرائيل). أمّا اليوم فإنّ المحلّلين الإسرائيليين يقولون بتفوّق المقاتلين الفلسطينيين على الإسرائيليين (لولا التقانة). ثمّ إنّ 48 كانت حرب تطهير عرقي تمّ فيه تدمير أكثر من أربعمائة قرية ومدينة عربية وهُجّر أهلها عنوة، وليس أنّهم فرّوا كما تقول الأسطورة الصهيونية المؤسّسة.

بُعيد هذا أميتَت القضية مؤقّتاً ووُضعِت على الرفّ بسبب الحذر العربي والجهل العالمي بالقضية. التزَم العرب بخيار المواجهة والاسترداد ولكنّهم احتكروا قرار الحرب باعتبار  أن التحرير لن يحدُث إلاّ بمعركة جيوش. وخلقوا في سبيل هذه البيروقراطية منظمّة التحرير الفلسطينية للتحكّم. غير أنّ الفلسطينيين سرعان ما فرضوا أنفسَهم من خلال حركات المقاومة وأكبرها فتح، التي بدأت أمرَها حركة تحرّر وطني مشبعة بأدبيات الكفاح الثوري. ومن خلال مجموعة من المواجهات البطولية استطاعت المقاومة فرض نفسها وانتزاع منظّمة التحرير من الدول العربية. وبمعارِك الفدائيين، التي ستبلُغ مداها في معركة أيلول الكرامة 1968، تتوّج الخيار الفدائي، القومي واليساري (الذي لم يكن أقلّ تمظهراته جورج حبش) وتزاحم مع خيار الحرب الكبرى.  وتأكّد أنّ التحرير سيحدُث بمقاومة شعبية وبالأخصّ من خلال عمليات الفدائيين، الطافِحة أحياناً، ولكنها مع ذلك دوّلت القضية بلفت الانتباه العالمي إليها. ومع الستينيات كانت القضية الفلسطينية قد هاجَرت من تاريخ الثورة العربية الكُبرى وقصة العرب إلى قضية النضال العالمي من أجل تقرير المصير والتحرّر، جنباً إلى جنب قضايا الكفاح المسلّح في الجنوب العالمي من جنوب إفريقيا وأنغولا حتّى فيتنام وفي الشمال في حركة الحقوق المدنية والثورة التحرّرية.

في الخمسينيات لم تكن الامبريالية في أزهى عهودها. ومع العدوان الثلاثي استُبدِل رسمياً مركزُها البريطاني-الفرنسي بالأميركي (وهو ما شبّهه بعض المؤرّخين بصعود الإسلام على حساب بيزنطة وفارِس في القرن السابع الميلادي). أمّا الستينيات فكانت سنوات غلبة الخطاب المقاوم للاستعمار حتّى في المركز الغربي من خلال صعود المدّ الثوري والتحرّر المدني والطلاّبي وثورة التحرّر الاجتماعي. وفي هذا السياق لم تُصفّ القضية الفلسطينية بقرار من القوى الكبرى بقدر ما تعثرت بسبب حروب العرب فيما بينهم. فقد منَعت حرب اليمن- التي هي كذلك مواجهة سعودي مصرية- الجيش المصري من تأمين نفسِه جوياً بسبب زيادة كلفة الحرب ضدّ الملكيات اليمينة والسعودية والأردنية وإسرائيل وبريطانيا. كما أنّ مزايدات البعثيين الصاعدين في العراق وسوريا ضدّ عبد الناصِر، أدّت إلى طرد بعثة الأمم المتحدة وإلى النكسة 1967 (وإن كانت النكسة استباقية أكثر من كونها ردّاً). وهكذا بدأت مرحلة ثانية من التراجيديا الفلسطينية تكلّلت باحتلال القدس والضفة الغربية وغزّة والجولان وبدأ المستوطنات فيها بُعيد ذلك (1969).

أثبتت النكسة من خلال حرب الاستنزاف وعمليات المقاومة الفلسطينية أنّ خيار الحرب الصغيرة وحرب العصابات يفضُل الحرب الكبيرة، التي هي غالباً غير متكافِئة. ورغم أنّ هذه الحرب عادت في أكتوبر 1973، إلاّ أنّه تبيّن  أنّ السادات لم يكن مؤمِناً بالتحرّر بالحرب، بل كان يستخدِم الحرب وسيلة للمفاوضة. ومن هنا بدأ الحديث عن "سلام الشجعان" وتفكيك الجبهة العربية. واصل الفلسطينيون من خلال المقاومة العلمانية مشروع حرب العصابات مستغِلّين فيه الغطاء الشعبي العربي والعالمي. فكثيرٌ من المناضِلين الأمميين التحقوا بالقضية الفلسطينية لتطهير العالم من بواقي الاستعمار والاستيطان. ومع الحرب الأهلية اللبنانية 1975 واجتياح لبنان 1982 تبيّن أنّ الخيار الاستراتيجي الفلسطيني بتحويل الصراع إلى بؤرة ميلشيات متحصّنة عربياً قد صار مكلفاً. ومع طرد الفلسطينيين إلى تونس تنفّست إسرائيل الصعداء. تواصَل استيطان غزّة والضفة والقدس الشرقية بكثافة. وبدأ فجأة كما لو أنّ القضية قد ماتت.

وهنالك فجأة ظهرت الانتفاضة في أواخِر 1987 ودخلت وعي العالم وضميره: شُعبٌ كاد يهزم ولكن المقاومة استيقظت من أطفاله. كان نِزار قبّاني رؤيوياً عندما استشرف حينها أطفال غزّة الذين يُعلّموننا ممّا عندهم: غيّرت الانتفاضة طبيعة منظمّة التحرير وفتح وحماس. فحيث إنّ المقاومة الإسلامية كانت منظمة خيرية ومدنية تتعامَل إدارياً مع الاحتلال فإنّ الانتفاضة جذّرتها وجعلتها لاحقاً حركة مقاومة مسلّحة. أمّا فتح فقد أدخلتها الانتفاضة في المسار السلمي.ً كان هذا الخيار قد طُرِح منذ منتصف السبيعنيات عندما استضافت الأمَم المتحِدة في سياقه عرفات في 1974 وناشَدها ألاّ تُسقِط غصن الزيتون في يده.  كانت منظمّة فتح قد عانت من انحسار الجبهة ومع التسعينيات عانت من مقاطعة الدول الخليجية. فقد اتفقت الكويت والسعودية ومصر على معاقبتها بتولّيها جبهة صدّام حُسين. مع "عاصِفة الصحراء" 1991 وتحييد حُسَين تيتّم عرفات. من ناحية أخرى أصبَح الإسرائيليون يحتاجون إنقاذاً لهم من الإحراج العالمي غداة الانتفاضة تماماً كما كان عرفات يحتاج قشّةً يتعلّق بها. وهكذا بدأ مسار أوسلو.

الترا فلسطين

إلاّ أنّ مسار أوسلو الذي قُدّم أنّه حلّ القضية الذي سيتوّج بدولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية سرعان ما تبيّن زيفه. من ناحية تخالف الإسرائيليون بين المضي من عدمه في "إسرائيل الكبرى" التي تلتهم كلّ فلسطين والجولان وجنوب لبنان وربّما تتوسّع وراء ذلك بحربٍ مفتعلة. وكان واضِحاً أنّ اليمين الاستيطاني يتفوّق شعبياً على خيار حلّ الدولتين. ومن ناحية أخرى لم يكن حلّ الدولتين في حدّ ذاتِه مخلصاً. فدولة أوسلو التي أعطِيت للفلسطينيين كانت ريعية تأتيها عوائدها من المانح الأوروبي والأميركي وليس بعلاقات طبيعية بين الدولة والمجتمع؛ كما أنّها لم تكن دولة ممتدّة إضافة إلى اختراِقها بالمعابر الأمنية ثمّ بالمستوطنات التي تُسيطِر عليها إسرائيل. فهي ليست دولة سيادة، بل هي دولة تعاون أمني. فقد ارتفَعت الوظائف الأمنية في السلطة الفلسطينية من عشرات المئات قبل "السلام" إلى أكثر من 60000 (من أصل 140000 وظيفة) اكتُتِبَت فيها الفصائل الفلسطينية لحماية الأمن الإسرائيلي والتنسيق معه وسرعان ما صُفي الجناح الثائر في فتح مع اعتقال أيمن البرغوثي. وما كان لهذا الولاء أن يحدُث بدون نظامٍ من الزبونية والريع والفساد، فحسب صندوق النقد الدولي قد نهب في السلطة مليار دولار في الفترة ما بين 1995 و2000 وحدها.

مع الانتفاضة الثانية 2002، التي أخذّت بعداً عنيفاً، ثمّ حرب لبنان 2006، لم يعد يمكن لليكود أن يستمِر في مشروع إسرائيل الكُبرى. واستيقَظت لديه خطّه بديلة: الانسحاب من لبنان وغزة وحلّ مستوطنات نتساريم وكفر داروم في غزّة، مع القيام بتهويد الدولة في الداخل وتمديد المستوطنات في الضفة الغربية وسجن غزّة في حصار لعقود تنطبِق عليه جميع صفات جرائم الحرب والعزل العنصري. وفي البداية لم ينتبِه الجميع للخدعة وهلّل لتنازلات الليكود وكاديما، الذي أصبَح فجأة يُدافِع عن "الانسحاب" و"خارطة الطريق". ولكن هذا الحلّ الشاروني كان في حقيقية الأمر نظاماً استعمارياً من الطراز العتيق، فالفلسيطينون عُزلوا في مدن الخارِج المحاصرة وفي غيتوهات الداخِل وفي طرق ومعابِر خاصّة؛ وصُمّمت المستوطنات على إقشاعِهم وحصرهم في سجون بشرية بعيداً عن فلسطين المستوطَنة. وهو نفس ما قيم به في الجزائر وكينيا وجنوب إفريقيا ولكنه يزيد عليهم بالعزل المروري. وبتزايد وتيرة الاستيطان؛ أحل الإسرائيليون أكثَر من 700000 مستوطِن في القدس الشرقية منذ احتلالها، وهو ما تعتبِره العدل الدولية جريمة حرب. إنّ هذا الأبارتايد ليقوم على تفوّق أو اصطفاء المستوطِنين الأوروبيين إلى الأرض الموعودة وقيامهم فيها بجرائم حرب وتطهير عرقي وطرد الأهالي إلى المناطِق الهامشية أو المهمّشة ومعاملتهم بمعايير خاصّة، وهو مشروع شارون، الذي ما زال يُنفّذ، والذي سمّاه باروخ كيمرلينغ بالذبح السياسي (politicide).

-4-

ظنّ بأن الذبح السياسي سينهي قضية الفلسطينيين بمنحِهم شبه سيادة على أراضٍ معزولة. ولكن مع اتضاح هذه الطبيعة الجديدة للاستعمار وفي هجماته الوحشية على فلسطينيي الخارِج ومواصَلة تهويد الداخل المحتل نهَضت في العقود الأخيرة عدّة جبهات جديدة للقضيّة الفلسطينية. فقد أخذت النصرة العالمية لفلسطين بعداً جديدًا عندما ظهرت حركة مقاطعة إسرائيل، التي تغلغلت في أوساط النقابات والمجتمع المدني الدولي وفي أوساط الأكاديميين والمثقّفين والتقدّميين والحقّانيين وفي الحركة الشعبية، وفي أوساط اليهود الأميركيين، الذين مثلهم مثل السود، من أكثر الأقليات تقدّمية: فإنّ نسبة مناصَرة فلسطين تزيد فيهم على الانحياز لإسرائيل. ورغم أنّ الحركة نجحت في إعادة تعبئة الرأي العالمي وبالأخصّ في أوساط الجامعات والنقابات إلاّ أنّ المنعرَج اليميني في الغرب أدّى إلى هجمة مضادة أدّت إلى محاولة تجريم مقاطعة إسرائيل في فرنسا وبريطانيا ومضايقتها في أميركا ومحاولة ربط معاداة الصهيونية بمعاداة السامية.

وفي هذه الأثناء حدَثت في الشرق الأوسَط محاولة أخرى لتصفية القضية الفلسطينية. فرغم أنّ الصراعات العربية كانت دائماً ما تقتُل قضية فلسطين، إلاّ أنّ العقود الأخيرة شهِدت تطوّر المحاورية العربية في المسألة الفلسطينية بدخول إيران ولعبها دوراً نفوذياً منذ صعود حزب الله فيما بعد 2006 ثمّ بالربيع العربي الذي شهد توسّع النفوذ الإيراني في المنطقة. أعيدت هيكلة الصفّ العربي بصعود الخليج سياسياً وقيادته معركة جديدة من الصراع الموصوف بأنّه عربي-فارسي (مرحلةٌ كانت قد بدأت منذ أيام لعب الشاه دور "شرطي المنطقة" وموالاة إسرائيل ودعم الانفصال الكردي ثمّ ظهور ما سُمِيَ بتصدير الثورة في إيران غداة الثورة فالحرب العراقية الإيرانية). ومع العقد الماضي بدأت السعودية تقود موجة جديدة من هذا الصراع كانت قد رفضت قديماً جانبها القومي بسبب أيديولوجيتها الدينية، ولكنّها علمنتها في تحوّلاتها الجديدة. ومع الربيع العربي ظهر في الأوساط الاستراتيجية الخليجية خوفٌ من انحسار النفوذ الأميركي، الضامن لتوازنات الشرق الأوسط، وبدأت الدعوة الاستراتيجية لتوازنات جديدة، بما فيها خيار حلف عربي إسرائيلي.  وهكذا بدأ مشروع تصفية القضية الفلسطينية بالرهان على شرطي جديد في المنطقة هو إسرائيل، وبالأخصّ أنّ الربيع العربي أظهَر هشاشة الجيوش العربية، وأقنَع بها بضروروة عودة الأحلاف. وهكذا ظهر حلف بغداد جديد.

-5- 

تقَع القضية الفلسطينية اليوم في هذا المنعرَج. من ناحية يبدو أنّ ما سُمِيَ بالتضامُن العربي قد انتهى. وحتّى دماثة الجامِعة العربية وعنتريات الثمانينيات صارت حلماً. ومن ناحية أخرى يبدو أنّ إسرائيل لم تعدم تلتزم  حلّ الدولتين، ولا حلّ الدولة الواحِدة، وأنّها تستبدِلهما بالأبارتايد والتهويد. ومن ناحية ثالثة يبدو أنّ ثورة التواصُل والرقمنة قد سمحت للخطوط الخلفية، أو ما كان اليساريون يسّمونَه بالقوات الشعبية، أن تدعَم القضية الفلسطينية بالموارِد والمعلومات والتقنيات. ثمّ إنّ تطوّر التقانة والاستراتيجيات الحربية منذ الربيع العربي والهجمات على غزّة والحرب الأوكرانية وثورة الطائرات المسيّرة والصواريخ الميدانية قد أعطَت إمكانيات جديدة للمقاومة الشعبية. كلّ هذا يجعَل ما يحدُثُ في غزّة يتوّج مرحلة جديدة من الصراع، مرحلة تتمتّع فيها آلة الحرب الإسرائيلية بدعم غير مسبوق من الحكومات الغربية وتريد فيها تدمير المجتمَع الفلسطيني المقاوم وتهجيره إلى بقعة بعيدة من السجن الغزّاوي الكبير. ولكنّها من ناحية أخرى مرحلة تُظهِر تصاعُد رفض الضمير الإنساني لهذه الهمجية الاستعمارية وتزايد منعة وتكتيكات المقاومة وكُلفة الاستعمار. وهذايُظهِر أنّ القضية الفلسطينية تمتلِك خاصية الانبعاث من الرماد في كلّ مرّةٍ تُحاولُ فيها المصالح الامبراطورية المختلفة إنهاءها. ذلك أنّها قضية الضمير الإنساني.