16-مارس-2016

ماذا لو أتينا بوزير الإسكان، وأجبرناه على أن يسكن في أحد هذه الأحياء؟ (أ.ف.ب)

هل حاولت يومًا أن تزور أحد الأماكن التي ترزح تحت ويلات المصائب، الرابضة تحت خط الفقر وعبء الأمراض؟، ربما لا تكونُ تلك الأماكن بعيدة عن الحي الذي تسكنُ فيه لكنك لم تزرها، ربما لأن تلك المشاهد تسبب للنفس شيئًا من الامتعاض المختلط بالتأفف، لكن ماذا لو أردت أن تتعرف على هذا المجتمع البائس، الذي يعكس بصدق بؤس الأرض التي يقع عليها دون مكياج التمدن والنظافة؟

لا سلطان للحكومة على الأحياء الشعبية ولا على أهل المكان

بداية، عندما تسير في الطريق الذي سيوصلك إلى هناك، ستجد سراديبًا لا طرقًا، لا يُسمح المرور فيها إلا على القدمين فقط، وهذا سيتطلب منك أن تتخلى عن سيارتك إذا كنت من ملاكها، حتى تتمكن من السير عبر الطريق الذي يتمتع بهذا الاستقلال التام وفي ذات الوقت يتمتع بالموت الزؤام، ربما هو الوحيد الذي لم تستطع الحكومة أن تسلب منه استقلاليته، لأن ليس للحكومة سلطان عليه ولا على أهل المكان.

اقرأ/ي أيضًا: حمامات تونس.. متنفّس أجساد الفقراء

كيف يكون لها سلطان على مثل تلك الأماكن؟ ما الذي يربط الحكومة وهذه الأماكن التي تفوح فيها الروائح التي لا تستطيع معها صبرًا، ما لها وهذه القاذورات المتراكمة، ما لها وهذه السراديب الضيقة التي لا تتسع لمرور عربات المسؤولين الفاخرة، ما بالها تشغل نفسها بهؤلاء الناس الذين لا تكاد تحس بوجودهم، ماذا يعنيها أمرهم ما دامت هناك تلك الطرق الممهدة بالأسفلت، التي ترتاح عليها عجلات العربات، فليكونوا أرحم بعرباتهم، لا يزعجوها بل يرأفوا بحالها، فهي غير قادرة على المضي في تلك الطرق الوعرة، ما لهؤلاء وهذه الجحور الخربة التي تفوح منها روائح تزكم النفوس، مالهم وهؤلاء ما دامت عربات البلدية حريصة على تجميل شوارع القاهرة الجديدة وما يحيط بقصر الرئيس وحاشيته.

والسؤال هنا.. ماذا لو أتينا بوزير الإسكان، وأجبرناه على أن يسكن في أحد هذه الأحياء، حينها سيستدعي معاونيه، ويسألهم في غيظ وحنق، كيف لهذا الحي وأمثاله أن يبقى في نطاق المدينة الكبرى، وعندها تصدر الأوامر بتهذيب تلك الأماكن وتجميلها حتى تليق بسيادته، وإذا بهذا الحي الشعبي قد مسته يد ساحر فصار لوحة فنية بديعة.

لكن دعنا نرجع إلى موضوعنا، بعد أن تعبر هذا السرداب الضيق الذي يفصلك عن المدينة وتدخل إلى هذا العالم الغريب، يكون أول ما يلفت نظرك مشهد هؤلاء البؤساء، الذين يقطنون الحي، رغم جفائه وقسوته، كأنّ هذا المكان وهؤلاء البشر القاطنين في جنباته، قد رسموا وهم لا يشعرون لوحة فنية غاية في الدقة والإبداع، لوحة تكاملت فيها كل عناصر التجلّي من حيث تناسق أجزائها وتفاصيلها، فلا تجد فيها عنصرًا شذ عن الآخر، فهؤلاء البشر بهذه الوجوه الشاحبة يتطابقون مع هذه المناطق. لا شك أن الحكومة مقصرة في حق هؤلاء، لكني أتساءل ما ضرهم لو أصبحوا أكثر نظافة مما هم فيه، ماذا لو تركوا هذا الفن ونحوه بعيدًا عن حياتهم وأقصد هنا "فن القذارة"، وأنا جاد فيما أقول، ولا أقصد تهكمًا أو سخرية؟

كيف لا تكون القذارة فنًا، وأنا أرى هذه المرأة في أحد الطرق المؤدية إلى جامعتي، وقد افترشت قارعة الطريق وجعلتها سريرًا تتقلب في جنباته واتخذت من السماء غطاءً فأصبحت لا فارق بين لون وجهها وملابسها وبين لون الأرض، كأنّها بهذا حققت قول أبي العلاء المعري: "أديمُ الأرض من هذه الأجساد"، بل لقد تعدى الأمر حدود المألوف والطبيعي، فصارت هي مرتعًا لأنواع الذباب المختلفة، هذه المرأة بالفعل فقيرة فقرًا مدقعًا، لكن ما دخل الفقر في هذا التفنن في ألوان القذارة، ماذا يكلفها أن تبعد نفسها عن هذه الأكوام من القمامة، ماذا يكلفها أن تزيح تلك الطبقات من الأتربة ببعض الماء، لن يكلفها ذلك إلا أمرًا واحدًا وهو إفساد هذه اللوحة التي حرصت أن ترسم تفاصيلها بإحكام متقن فأضحت لوحة غاية في الإتقان، وهي خائفة أن تزيل برونقها ونظافتها جمال التفاصيل.

اقرأ/ي أيضًا: احتجاجات الجزائر.. العيش الكريم أولًا ودائمًا

أما عن مساكن هؤلاء، فهي لا تتعدى مجموعة من الكهوف، والخرابات و"العشش"، قد رصت جميعها إلى جوار بعضها، فأعطت تناسقًا مبهجًا، يسر الناظر إليه، لكن ما بالهم تسودُ بينهم هذه البيروقراطية، فالجماعات الأشد فقرًا منهم تسكن الكهوف، والأقل من المجموعة الأولى فقرًا تسكن الخرابات، أما الفئة الأرستقراطية منهم فتسكن "العشش"، التي تكون في العادة مكونة من عدة غرف.

في الأحياء الشعبية، تجد وجوهًا شاحبةً باهتةً، وجوهًا أضناها اليأسُ والفقرُ والحرمان، لن تفرّق بين شيخ وشاب، لأن أعمارهم في الفقر تساوت

فليعلم هؤلاء أن النظافة لا تكلفهم كثيرًا، لا تكلفهم أكثر من أن يتعودوا عليها فقط، أن يشعروا بأن هؤلاء القوم الذين يقطنون المنازل الفخمة ليسوا أكثر منهم إنسانية، لا يكلفهم إلا أن يتناسوا القذارة والفقر قليلاً، وإلا فيجب فرض عقوبة الجلد على كل عاشق للقذارة، فخير لهم أن يموتوا من الجلد بدلًا أن يموتوا من جراثيم القذارة.

هناك ستجد وجوهًا شاحبةً باهتةً، وجوهًا أضناها اليأسُ والفقرُ والحرمان، لن تفرّق بين شيخ وشاب، لأن أعمارهم في الفقر تساوت، أو ربما لم يهتموا بالزمن نظرًا لأن الأيام بالنسبةِ لهم صارت متشابهةً كتشابه الوجوه، والظن الأكيد أنهم بتشابههم في الملامحِ حرصًا منهم على عدم إفسادِ تفاصيل اللوحة التي حرصوا أن تبدو متناسقة قدر الإمكان.

أيها القارئ، أخشى أن أرهقك معي في التفاصيل أكثر، يكفي أن أضيف أن هؤلاء هم أشد أهل الأرض بؤسًا، هؤلاء هم من يطالبهم الرئيس في كل مرة أن يتبرعوا من جيوبهم لمصر، كي يرفع بأموالهم أجور الجيش والشرطة والقضاء، هؤلاء هم الذين طالما وجه لهم الرئيس سؤاله "هي الفلوس راحت فين؟"، والسؤال الآن ما مصير هؤلاء التعساء، والجنيه الذي لا يملكونه كل يوم في هبوط وقد صار مطية لبقية العملات، ربما يعصف بهم قانون الغاب في الفترة القادمة أكثر من ذي قبل، وهذا لن تراه إلا هناك، في الأحياء الشعبية.

اقرأ/ي أيضًا:

 الدولة لم تسمع بعشوائيات نواكشوط بعد!

الخيمة تزاحم المباني في موريتانيا