13-يناير-2021

شارع رئيسي فارغ في وسط بيروت (Getty)

9:30 بتوقيت بيروت

الأحد 11 كانون الثاني/يناير 2021

الطيران الحربي الإسرائيلي يحلّق على ارتفاع منخفض فوق بيروت، منذ ساعات الصباح الأولى. نسبة الإصابات بفيروس كورونا المستجد، وصلت إلى أعلى نسبة لها في لبنان، وأصبح لبنان من أعلى الدول في العالم في معدل الإصابات، بالقياس إلى عدد السكان. لا أسّرة في المستشفيات. بعد أشهر قليلة على انفجار المرفأ، لم ينجح اللبنانيون هذه المرة بتجاوز الأزمة، وباختراع الحياة، كما كانوا يفعلون عادةً. هل سيلتزمون بالحجر والاغلاق، أم أنهم سيموتون من الجوع وهم يتفرجون على المجموعة الحاكمة عبر شاشة التلفزيون؟


ثمة نظرية شائعة في علم الأعصاب تقول إن الدماغ يموت من الوحدة، وهو بالتالي يحتاج وجود آخرين، لكي يستعيد وظائفه. يجب أن يسمع أصواتهم، وأن ينظر إليهم، وأن يكون آخرَ بالنسبة لهم أيضًا. مهما بلغت درجة العزلة، فإن الحواس يمكنها أن تعمل بطريقة مستقلة عن أصحابها، باستثناء تعطلها في السجن الانفرادي. تتعرض هناك لهجوم متواصل، ينبع من الداخل. تتعطل. في السجن، تتغير العلاقة مع الذات. على أي واحدة من تلك الشرفات، التي لا تطل على شرفات أخرى، إنما على أبنية تتسابق لإغلاق كل ثغرة ممكنة في السماء، وأنت تنظر إلى مدينة مدمّرة، تتعطّل الحواس. في بيروت لا يزال السجن سجنًا. "الإغلاق العام"، هو اغلاق الثغرات المتبقية في وجه السماء. إعلان رمزي عن تحول المدينة إلى معتقل.

ثمة نظرية شائعة في علم الأعصاب تقول إن الدماغ يموت من الوحدة، وهو بالتالي يحتاج وجود آخرين، لكي يستعيد وظائفه

صفارة الإسعاف بحد ذاتها ليست حدثًا. لكن صفارات الإسعاف تجعلك تغيّر نظرتك إلى العالم. يحب السيكولوجي الفرنسي الشهير، بورس سيرولنيك، هذه الألعاب: الصدمة/المرونة – العيش/التفكير في العيش. لكي ينتهي الخوف، يجب أن تمرّ بمرحلة الخوف، وبالتالي أن تفكّر بالخوف. يجب أن تكون مرنًا، ولكن يجب أن تشعر بالصدمة، إذا أردت أن تشارك في اللعبة بلا ضغينة. ما يمكننا اقتراحه إذًا هو الاستماع إلى صفارات الإنذار بتأن شديد، وأن تحزن. العشرات من سيارات الإسعاف تمرّ في بيروت كل يوم، كل ساعتين أو ثلاثة. يمكنك أن تعدّها، أن تفترض على طريقة اليوتوبيين أنك تشارك في إعادة الروابط بين البشر، وأنك بالانتماء إلى العالم الرقمي، تنتمي إلى العالم. يعتبر موني كاستيز، في كتابه "شبكات.. لا إله ولا سيد" أن أهم ميزة للأفراد في العالم الرقمي، وليس فقط على مواقع التواصل الاجتماعي، أنهم يستطيعون إنتاج ثقافة جديدة، تقوم على معتقدات وأفكار جديدة، تحدد علاقاتهم داخل هذا العالم. تقريبًا هذا صار بديهيًا. صفارات الإسعاف لا تُسمع في الديجيتال. كل ما يتعلق بالحقيقة، يحدث خارج هذا العالم الرقمي، خارج الشاشات بشكلٍ عام.

اقرأ/ي أيضًا: فورين بوليسي: انفجار مرفأ بيروت هو "تشيرنوبل لبنان" 

في الحجر/السجن، نتواصل مع بعضنا البعض عبر التطبيقات. نعمل عبر تطبيق زوم. نسمع أصواتًا ولكن متقطعة. باردة، كأنها مسننة. الأصوات الحقيقية تأتي من الخارج، من الذين رفضوا الحجر، لكي يعملوا، أو الذين رفضوه لمجرد أن يعلنوا رفضهم. لماذا لا يُصنّف الهامشيين أشخاصًا وجوديين، وتُقذف نحوهم وصاية المثقفين. رغم ذلك، فإن سعال أحد الجيران، عندما يتكرر، يصير مؤلمًا. يمكننا أن نكون صريحين أيضًا ونقول إنه مخيف. ليس الصوت الذي تسمعه في الهاتف، أو عبر اللابتوب صوتًا ثابتًا. إنه صوت يهتز. ليس حقيقيًا مثل صراخ يأتي من الطابق الثامن، فوقك مباشرةً، بالتزامن مع دخول سيل من البعوض إلى الصالون، أثناء محاولة فاشلة أخرى لتبديل الهواء في المكان. في الوباء، هنا في لبنان، فقط البعوض يعرف التضامن، وثمة صراع خارج العزل، على الهواء.

عليك أن تحدد موقفًا في السجن/ من السجن. يمكنك أن تضع الكمامة على وجهك وتنظر إلى المرآة، وأن تأخذ سيلفي، وتقنع نفسك أن هذا ليس سجنًا. ثمة مستشفيات في الخارج، وثمة لقاحات، وعليك أن تقنع نفسك بأن الدولة قامت بكل شيء على أفضل وجه، لكي تحافظ على سلسلة من قيمك: حريتك، كرامتك، وهكذا إلى ما لا نهاية من الكلمات التي تُسمع في الخطابات. عندما تنتبه أن الدولة لم تفعل شيئًا، لا تضحك، لأنك ستضحك على نفسك. يمكنك أن تنظر إلى الخارج من ثقب في النافذة، وتنتظر اختفاء الوباء، وأن تتعاطف مع الأطباء، ومع الضحايا، وأن تخاف على أقاربك، وأن تقرأ كتاب سلافوي جيجيك وتشعر بالخيبة في النهاية.

أهم ميزة للأفراد في العالم الرقمي، وليس فقط على مواقع التواصل الاجتماعي، أنهم يستطيعون إنتاج ثقافة جديدة

يمكن فعل أشياء كثيرة، عندما يكون العالم يمشي في طريق العودة، وأنت تقيم في مدينة تحاول اللحاق بالعالم بالمقلوب. يمكنك أن تخاف، شرط ألا تبالغ في خوفك. نحن ضعفاء وأوضح دليل على ضعفنا هو وجود الطب في الأساس. من بين جملة الأشياء التي يمكن فعلها في الحجر، هو تجاهل هذه الحقيقة، حتى رغم تراجع المجتمع، وانكشاف الناس أمام وحش الوباء. ليس بإمكان الجميع الجلوس خلف التلفزيون. في الحجر، هناك من يشعر برغبة عارمة طوال الوقت بتكسير التلفزيون. جرّبوا بعض المحطات اللبنانية، جرّبوها مع كمامات.

اقرأ/ي أيضًا: بيروت الصورة.. بيروت الواقع

يخبرنا جورجيو أغامبن أن الوباء ليس الوباء. يطلب منا أن نهدأ. إنه حقيقي وهنا. يمكننا أن نغفو، يمكننا أن نستيقظ. الخوف يجب أن يستمر، أن يذهب في اتجاهه الصحيح. الثقة الزائدة سببت هذا السجن الكبير. لدينا من القوة ليكفي لنعرف أننا لا يمكننا فعل أي شيء. الوباء سينتهي، الخطاب سيبقى. من على أي شرفة، من هذه الشرفات المغلقة، في هذا الحجر/السجن، وأنت تسمع صفارات الاسعاف في الشوارع وهي تنقل مصابين تفاقمت حالتهم، تذكّر ألا تشتم العولمة، وتلعن الاستعمار، لا تردد فقط ما تعرفه. عليك أن تبحث عن معان جديدة، إذا كنت رافضًا فعلًا للملل. العرض لم يعد مسليًا، يمكنك أن تخلد إلى النوم باكرًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيف تفاعل اللبنانيون مع قرار الإقفال العام للمرة الثالثة؟

مفارقة جورجيو أغامبين حول كورونا