04-نوفمبر-2016

من صفحة عدسة شاب من الزبداني (فيسبوك)

حدث ذات حرب أن التقينا. لم يكن قلبي مستعدًا للحب حينها، كان مملوءًا بضجيج الموتى، وكنت ياسمينة تقبعين قاب قوسين عن الخراب الذي يملأ الوقت، وثلاثة أعوام عن ذاكرتي اليوم، وكان الفاصل بين قلبينا ذات الحرب التي تمتد إلى ما لانهاية. هي الذكريات لا تمل من الحضور وكلما حاولنا إسدال الستار عليها تكون أقوى من لهيب الشمس، تحرق الستار وتأبى إلا الحضور، هي أنت من جديد، أنت اللغة المختلفة عن باقي اللغات، أنت الذكرى الحاضرة في كل زاوية من الكتابة هي أنت.

تأخرت بسبب زيارة لصديق في "البرامكة" بدمشق قرب الكلية التي تدرسين فيها، لم أكن أعلم بوجودك فيها أو أنك تدرسين هناك، لكن رائحة الياسمين في البرامكة تختلف عن رائحة ياسمين دمشق، ناهزت الساعة الرابعة وكان الشارع مكتظًا بمن لا يحالفه الحظ لإيجاد سرفيس يقله إلى مبتغاه، أعرف حظي فقررت المشي إلى المدينة الجامعية، لم أكن ممن تستهويهم حينها الفتيات لأن الضجيج يسيطر علي من كل مكان ولكني عندما رأيتك عرفت سر الرائحة الغريبة هناك، كنت بعيدة عني مسافة تساوي اسراعي في المشي لمدة دقيقة واحدة وأسرعت، النظرة الاولى أزاحت الضجيج، تأخرت عنك في المشي قليلًا، أحسست أن سورية كقلبي الآن خالية من الموت، أسرعت أخرى، في النظرة الثانية عرفت لماذا قطعت النسوة أيديهن في المدينة عندما خرج عليهن يوسف، لكن هنا شراييني قطعة لسماع صوتك، الحقيبة التي كنت تحملينه كان يحوي مسطرة طويلة خاصة بطلاب الهندسة.
- كأنك طالبة هندسة صح؟ كانت أول كلمة سألتك اياها.
- أي
هذا الجواب "أي" زاد المعرفة في نظرية التقطيع السابقة، وتيقنت أن كل النساء اللواتي صادفنك في حياتهن قطعن أيديهن تأسفن على أنفسهن.
لكن لم أسمع النوتة الموسيقية التي عجز الملحنون عن معرفة سرها. وهي صوتك.
- هندسة شو؟
- عمارة.
وأنا الذي من دون أن ألقاك أحب هندسة العمارة، فكيف وقد التقينا.

أصبحت حينها شيئين فقط أذن تحاول أن تركز في نوع الموسيقى التي تتلفظين بها، وقلب عم خفقانه أرجائي، بدأت بطرح أسألتي كي تتكر الموسيقى من فمك، إلى أن وصلت إلى سؤال:
- من وين أنت؟
- من الزبداني ‘ذا كنت بتعرفها.

أخذت نظرة خجولة إلي وأكملتي: 
- بس هلق ما عاد في زبداني... مسحوها عن الخريطة.
صعقتني كلمتك وعاد إلي الضجيج.
-مسحوها مو، هني اللي عمروها لأن.

كنا محاذيين للقضاء العسكري وفقدت تركيزي فيما أقول... لله الحمد أن احدا من الحرس على السور لم يسمعني، أو أن الله ضرب على أذنيه ولم يسمح له بسماعي، وإلا لكنت الآن ثاويًا في مقبرة لا يعرف مكانها أحد، أو في أحد الأقبية التي لم تر شعاع الشمس يومًا.

لم أستطع التوقف عن الكلام وأنت لسان حالك يقول لي أكمل ما أنت فيه.

الطريق كان جد قصير، ولم يسمح لي قصره بسؤالك عن اسمك ولا الحرب ذاتها سمحت لي بأخذ رقم هاتفك، وافترقنا على باب المدينة الجامعية ولم ينتهي حديثي.

في ذات الحرب تذكرت خجلك وابتسامتك وموسيقى صوتك، وأيقنت أن اللقاء مستحيل، فاللقاءات العابرة مثل الطيور المهاجرة إن هاجرت لن تعود إلى مكانها في نفس العام. الفصل طويل والشتاء فاس والحرب لم تنته، حرب مسحت بلدتك، ومسحتني عن الخارطة أيضًا، وأصبحنا ثلاثتنا بلا عنوان، كل منا يبحث عن حتفه كي ينأى عن لعنة الحرب، وعن ذكريات لن تعود إلى الأبد.

ذات حرب لن نلتقي.

اقرأ/ي أيضًا:

الموت بأديسون أو بالقنص

ثناء متأخر