02-نوفمبر-2016

من اللوحات السوداء لـ فرانشيسكو غويا/ إسبانيا

بكامل الوعي أكرر نفسي الآن، على الموقع نفسه الذي أتاح لي المساحة الكافية لأعبر عن نفسي بجميع أوجهها. وأنا اليوم وبكامل انفصامي بالشخصيات، التي لا تنفك حاسة الوجع عن الانغراز في نخاغي وسلسلة ظهري. اليوم أتلو ما أريد بكل الطرق اللازمة. هذا المقال ليس مقالًا. هذا المقال عبارة عن تكرارٍ بصري، عن ترجمةٍ للصورة بالكلمة، هكذا سأوصل صوتي في "ألترا صوت" اليوم.

أحيانًا، أستيقظ بلا وجعٍ في المعدة. أغسل وجهي، أفرك أسناني، أستحم، أرتدي ثيابي وأنطلق إلى العالم الخارجي. أحيانًا أشعر بأنّني لست الشخص البائس نفسه. الذي يجول في المدينة التي لم تعطه الفرصة إلا وكانت خارجها. وتجول سيجارتي في فمي من حانة إلى حانة، من مقهى إلى مقهى. نسكر صباحًا ونرتشف القهوة مساءً. أكتب في المساء. كيف أكتب مقالًا مساءً عما حصل البارحة؟ أحاول مرارًا وتكرارًا تذكر ما حصل البارحة. بين انتخاب وإسقاطٍ وتصريحٍ وكلامٍ ينتشر بسرعة الميكروبات. لا أرى ولا أسمع شيئًا سوى ضجيجٍ لا لون له ولا نكهة. ينتظرني المحرر، ينتظرني رئيس التحرير، فريق الغرافيك يتلو عليَّ أدعية الفوتوشوب. اللهم ألهمه رسمًا إلكترونيًا لما يحصل في لبنان.

- 30 يومًا يا زكريا بلا مقال؟ هل أنت منهك؟
- نعم بعض الشيء. أشعر أنني فرغت صحافيًا.
- وكيف ذلك؟
- خوفٌ من التكرار. لا أرى أمامي سوى الأحداث نفسها والكآبةِ نفسها.
- هل قررت ترك "ألترا صوت" واعتزال الصحافة باكرًا؟
- اعتدت على "ألترا صوت". أشعر بأنه المتنفس الوحيد لي في عالم الصحافة، الذي فرضت نفسي عليه. أحببت اللعبة فلعبتها مع عشيقتي السينما. أيضًا أعتبر "ألترا صوت" المكان الوحيد الذي يسمح لي بنشر مقابلةٍ مع نفسي. أو النسخة الأولى من فيلمي القصير القادم.
- جوابك ليس واضحًا. هل تريد ترك "ألترا صوت"؟
لا أريد ترك "ألترا صوت". أريد مقالًا جديدًا فيه. يا أخي كل أفكاري تبدأ وتنتهي بأننا في لبنان نحتضر. وأنا أريد أن أكتب عن الحياة.

ألاحظ في تلك المقابلة أنني فعلًا أتشتت دائمًا في أسئلتي وأجوبتي. استغرقني الأمر أكثر من مائتي مقابلة حتى وصل دوري في الضيافة الصحافية. جلست مع نفسي أفكر في هذا الصباح: "ماذا سأرسل للمحرر؟". ثم ألاحظ كمية الأنانية التي أمتلكها التي تجعلني أفرض مقالي بلا تحذير. وتجعلني أمتنع عن إرسال أي مقال لشهرٍ كامل. وأعود كالمحارب أكتب يوميًا.

امتنعت عن الكتابة لشهر، بعد أن صفوت مع نفسي وحاورت نفسي وسحبت من فمي أجوبةً لأكثر مقابلةٍ شيقة بالنسبة لي. لا لن أترك الصحافة، ليست عدوتي، على العكس، الصحافة هي الوسيلة الأولى التي أرشدتني إلى فن الكلام. إن كان فارغًا وإن كان منعشًا بالحيوية. إن كان موجودًا وإن كان مخفيًا. إن كان نظيفًا أو كان سوقيًا. وبعد الامتناع عن الكتابة الصحافية. أعود إليها، كمريضٍ نفسي هجره ممرضه. أعود إلى الكلام، أعود إلى التحقيق والتدقيق. أعود، ولا يهم إن كنت سأبقى بائسًا.

وبعد أن عدت من العزلة، لم أجد شيئًا يُلهمني من وجوهكم. ولم أجد أي إبرةٍ تحيك جملةً على كمبيوتري عن وضعكم. ما اكتشفته في العزلة، أن الصحافة كونها فن التذمر، فلا جمال لكم في أيٍ من مقالاتي. أتكلم عن من يحملون هويتي. أتكلم عن شعبٍ لم يجد أي دافع لمحاولةِ تغيير أي شيء. 

قبل يومين، اكتشفت أنني قد أكون مصابًا بمرض "أديسون". المرض الذي سحب من جهازي الميكانيكي الدموي الطاقة والأدرينالين. قلت للطبيب، ما العمل الآن؟ فأجاب، الآن ننتظر. كرهته وكرهت المستشفى وكرهت شركة التأمين التي لم تعترف بمرضي. "يا عالم يا هو! أنا لست كسولًا بل لم يعد لدي أي دافع لأحاول إعادة تنظيم حياتي ومائدتي ومسح بطني من الدهون". 

يُمازحني الطبيب ويقول: "جون كينيدي وأنت مصابان بهذا المرض". ضحكت من كل قلبي على تشبيه الطبيب في قسم الطوارئ. راقصت المصل المعلق في ساحة المستشفى. "هاهاها" ماذا سأقول للعالم بعد اليوم؟ يا سكان الأرض، أنا وجون كينيدي مصيرنا واحد على هذه الأرض. إن لم يكن بـ "أديسون" فبالطبع سيكون بالقنص. ولذلك ابتعدت، وعدت، وسأحاول البقاء، كآخر مقاومٍ لمتاعب الجسد والعقل الطبيعية.

اقرأ/ي أيضًا:

آخر يهود العراق

لماذا يموت الذين نحبهم؟!