05-يناير-2024
(Getty) طفل فوق أنقاض منزله في رفح

(Getty) طفل فوق أنقاض منزله في رفح

نقرأهم ونسمعهم فيغيّرون فهمنا للكتابة والكلام، وكأنّ المدوَّنَ والشفويَّ يخرجان من أوردةٍ مقطوعةٍ أكثر من خروجهما من شفاهٍ!

محكوم على الكلام الذي يسابق الموت، أو المُختَلَس بين نجاتَيْن، أن يقوم بتكثيف الغامض من الحياة والواضح من الموت في عدة عبارات.

من يهتم إن حسب ذلك على الشعر أم لا ما دامت الكلمات نقاطًا قاتلة فينا، إذ تُرغمنا على وضع أيدينا على صدورنا مثل من يوقفون نزفَ جرح، لكنّ مفارقة هذه الحالة أنّ النزيف يسير بشكل عكسيّ، ذلك أن الكلمات توجعنا من دخولها فينا سائلةً، ومن تحوّلات حروف الهجاء لتعبر من ذلك الثقب نحو الداخل.

حين لا يترك الموت وقتًا كثيرًا، وحين يجد الناس أنفسهم مرغمين على المسارعة في دفن موتاهم قبل مجيء جولة الموت الجديدة، سيقول الجدّ عبارته الخالدة: "روح الروح هذي"، ثم يضع حفيدته التي يراها لآخر مرة في كيس أبيض لتمضي مع قوافل الراحلين.

محكوم على الكلام الذي يسابق الموت، أو المُختَلَس بين نجاتَيْن، أن يقوم بتكثيف الغامض من الحياة والواضح من الموت في عدة عبارات

وتأتي أمٌّ مثقلة بمأساتها حاملةً وليدها الذي صار جثةً وهي تصرخ: "أخذت لأجله 580 حقنة هيبارين".

وتكتب فتاة شديدة الحساسية أنها استطاعت، بعد أسابيع من الفرار والموت من مكان لآخر، أن تجالس للمرة الأولى أهلها دون خوف مع دخول الهدنة حيز التطبيق، وهالها وقتها أنهم تغيروا كثيرًا، وكأن رعب الأيام الأخيرة أكل الجانب الحي من ملامحهم، وأبقى لهم ما يبقى في وجوه الموتى من ذهول، قبل أن تُغلق أعينهم إغلاقها الأخير.

ويبالغ شاب ساخر في وصف مغامرته في الحصول على الشوكولا المرّة التي تحبها أمه. هي لم تطلب ذلك لأنها تعرف أن هذا ليس وقت الشوكولا، إلى جانب أنها بضاعة مستحيلة في أوضاع يشحّ فيها كل شيء.

يواصل الشاب مغامرته بحثًا عن الشوكولا التي يصادف أنه يعثر على بعض منها، لكنه من النوع الحلو، أو أقل مرارةً مما تفضّله الوالدة، إلى أن يجد المبتغى.

بالنسبة له، لا يريد لأمه الموت، بحسب الاحتمالية العالية التي تواجه الجميع في قطاع غزة، وفي نفسها تلك الرغبة الصغيرة.

وبالنسبة له أيضًا، لا يريد الموت قبل تحقيق شيء ما، وإن لم يكن إنقاذ القطاع وإيقاف الحرب، فليكن على الأقل الحصول على شوكولا لأمه.

وهناك وصف سريع، شديد التعجل قليل الصبر، يروي صاحبه تجربته في البقاء تحت الأنقاض لثلاثة أرباع الساعة، قبل أن يأتيه المنقذون ويخرجوه، فيكتب ما شعر به آنذاك، ثم ينشر نصًا سريعًا مع ملاحظة تفيد بأنه لا يبالي بمستوى ما كتب، ولا بسلامته اللغوية، فكل ما عليه فعله هو ان ينشره ليشعر به الآخرون قبل أن تصيبه القذيفة المقبلة وتحرمه من تلك المشاركة.

وهنا نسأل ببساطة: هل النص هو ما كتبه صاحبه؟ أم هو إقراره في التعجل في مسابقة الموت؟

في غزة، تُعجن اللغة مثل طحين بالأيدي المبتورة والشفاه المحطمة، ولشدة حرارة النفوس الكسيرة لا تحتاج إلى فرن لإنضاجها.

تغير الكلمات ووظيفة الكلام وصارت برقية ذات التماع مبهر للعيون، أو مباشرة كالطعنة.

هذا كلام الأنقاض. هذه لغة مسابقة الموت.

وكل ما علينا هو أن نحمل كل عبارة، وكل قصة شفوية، وكل صرخة، بالقوة التي نحمل فيها الكتاب.