11-يوليو-2021

كاريكاتير لـ مرام علي/ الأردن

فجأة وجدنا أنفسنا مربوطين بين سكتّي قطار. نسمع صوت الصفارات وهدير المحركات، نتجّرع الشجاعة من الأمل. نتجاهل اهتزاز القضبان تحتنا، ونحاول التملّص من حبال الدم والهويات التي قيدّتنا على هذه الحصى الواخزة. نشّغل عقولنا، أو بعض ما يمكن تشغيله منها تحت الضغط، لعلّنا نستطيع تحديد وقت تقريبي لوصول القطار العظيم الذي سيهرسنا، فنكيّف محاولة الفكاك قبل وصوله، نستحضر بشكل سريع كل مشاهد السينما التي رأينها لأبطال نجحوا في فكّ القيود عن أيديهم قبل انفجار القنبلة، والكتب التي تحدثت عن قوّة الإرادة التي تهزم الواقع، والخبرات الطفيفة التي عرفناها عن عالم القطارات، سرعتها، المسافة بينها وبين صفيرها. والقصص التي سمعناها عن شعوب هرستها القطارات قبلنا.

ومع عدم إغفال العوامل الأخرى (دينية، عرقية، دولية….) فإن الغريزة الأدنى كانت تنتصر في كل معركة خاضتها ضد غريزة أعلى

بالأصل، ليس مهمًا أن نفهم من ربطنا، ولا لماذا، ولا ما الذي أوصلنا لهذه المحطة القاحلة التي تنتهي عندها تفريعة أقدارنا، وما الذي يجري علينا تمامًا. لولا أننا نريد الاستعانة بتلك الإجابات لنحاول تلمّس بعض ملامح ما ينتظرنا. 

اقرأ/ي أيضًا: نحو مقاربة ديمقراطية لفلسطين

لم نتوقف عن البحث، لم نترك بابًا من أبواب الإجابات دون أن نقرعه بضربات بالأسئلة، ونتذلل على عتبته بالفضول والقلق. 

التاريخ كان بابًا لطيفًا للغاية، مفتوحًا دائمًا ومرحِّبًا وثرثارًا، يخبرنا ـ دون تحفّظات ـ بكل ما يعرفه، لكنّه للأسف غير مفيد. فكل ما أخبرنا به لم يكن صحيحًا. على الأقل لم يكن صالحًا للتكرار هذه المرّة، ومخيلة القدر كانت أوسع بكثير من خبرة التاريخ. 

مشيئة الله؟ منطق العدالة؟ الصحيح والخاطئ؟ كل هذه الأبواب سكنّا إليها، لم نقرعها، فقط ألصقنا خدودنا بدرفاتها مبتسمين، لكنّها كانت تهزّ رأسها وتفرد شفتيها اعتذارًا لأنها لم تعطنا الإجابات التي نريد، لأنها لم تكن كافية لتفكّنا من هذا الانتظار اللعين. 

الاقتصاد؟ تبيّن في النهاية أنّه هامشي، أي عكس ما أخبرنا به كارل ماركس وآدم سميث معًا، وأنّه يمكن للحياة أن تستمر دون اقتصاد تمامًا. ويمكن للحروب أن تستمر بعد أن يلفظ الاقتصاد أنفاسه الأخيرة، انظروا إلى العراق ولبنان وسوريا بينهما، حيث سيكتشف البشر أن الاقتصاد ليس المحرّك الرئيسي للتاريخ، وأنّه مجرد حصاة مدبّبة تزيد من وخز الأجساد المربوطة. 

الدارونية؟ أليست هي النظرية التي تسمي نفسها التطورية وتتحدث عن الأصلح والأقوى والأجمل والاصطفاء؟ تبًا. 

الفلسفة؟ الأدب؟ أمثال البدو؟ حكم الأجداد؟ اغربوا جميعًا عن وجوهنا، هل هذا وقت مناسب لتقابلوا مربوطين على سكة؟ أساسًا أصواتكم أخفض بكثير من هذا الصفير. 

خطر لي قبل فترة أن أقرع باب ماسلو (صاحب هرم الحاجات) لعلّي أعثر في الهرم الذي رسمه على إجابة، أو محاولة تنبؤية تصلح للاستخدام بديلًا للإجابات. 

أستحضر بعض ملامح مما جرى علينا في السنوات الماضية، وأطابقها مع ذلك السلم المتضيق، وأول ما عثرت عليه، أن متغيرات تأرجح أطراف الصراع ومستوياته وشدّته يمكن مطابقتها مع معادلة ماسلو، وأن الدوافع (الحاجات/ الغرائز) كانت تنتصر أو تنهزم بحسب موقعها على ذلك السلّم. 

ومع عدم إغفال العوامل الأخرى (دينية، عرقية، دولية….) فإن الغريزة الأدنى كانت تنتصر في كل معركة خاضتها ضد غريزة أعلى. 

في تلك المعركة اللطيفة القديمة انتصر الخوف بالضربة القاضية ومن الجولة الأولى على تلك الحاجات الواقعة في الصفوف العليا من الهرم: الحاجة للاحترام، الكرامة، الحرية، الديموقراطية، العدالة، المساواة..

تزود الخوف بشحنات من الحماس وبالخبرة الطازجة وخاض معاركه مع الروابط الاجتماعية، مع الروحانية، مع الحاجة لإثبات الذات، ثم مع الحقد. وانتصر بها جميعًا

الخوف يقع في الصف الثاني من قاع الهرم، ولا يدنو عنه سوى الحاجات الفيزيولوجية الأساسية (التنفس، الطعام، الجنس)، وكم كان سهلًا على غريزة دنيا كهذه أن تهزم غرائز واهية ضعيفة لشدّ ما هي عليا. 

اقرأ/ي أيضًا: جرائم لا يحاسب عليها القانون

تزود الخوف بشحنات من الحماس وبالخبرة الطازجة وخاض معاركه واحدةً تلو الأخرى، مع الروابط الاجتماعية، مع الروحانية، مع الحاجة لإثبات الذات، ثم مع الحقد. وانتصر بها جميعًا. 

اليوم (أقصد اليوم حرفيًا) ومع نشرة الأخبار الصباحية قفز هرم ماسلو مجددًا أمامي بتصاميمه المختلفة: الليرة اللبنانية تصل لسعر 20 ألف مقابل الدولار، توقف شبكة الكهرباء تمامًا في العراق، زيادة الأجور في سورية (50 %) ورفع أسعار المواد الأساسية 100 - 250 %.

الخوف الذي انتصر في كل معاركه السابقة، لديه أيام قادمة صعبة: هذه المرة سيواجه غريزة الجوع، وأظنها ـ حسب ماسلو ـ ستكون أمّ المعارك حقًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إذا ما احتجت بلدًا فلفّقه

أُمِّية الطغيان