14-أغسطس-2023
ديكارت وباشلار

(الترا صوت) ديكارت وباشلار

ردّ مؤرّخ العلوم ميشيل سير على سؤال وُجّه إليه عن المنهج: "أنت تعلم أن اللفظ "منهج" الفرنسي مشتق من اليونانية "ميتودوس" التي تعني "الطريق". والحال أنك إن تابعت طريقك نحو لاندورنو، فإنك ستصل إلى لاندورنو. وعلى النّحو نفسه فإنّ الطريق السيّار أ6 يؤدي دومًا إلى طريق باريس الدائري. الأمر نفسه بالنسبة لوصفة الطبخ، إذا تابعت بعناية وصفة الفطيرة تاتان، فإنّك ستصنع فطيرة تاتان. لكن من حقّنا أن نتوقّف لحظة ونتساءل كيف حصل أن ابتدعت الأختان تاتان هذه الفطيرة العجيبة؟ إنّهما ارتكبتا زلّة: أوقعتا الفطيرة التي سقطت مقلوبة. أعتقد أنّ التفكير الحقّ يتمّ على هذا النّحو: إنّه يتمّ عن طريق الحيد عن الطريق وبفعل الحظّ والصدفة. فنحن نجد ما لم نكن نبحث عنه. التقدّم يتحقّق بفعل الخطأ".

يعتقد ج. كانغليم أن الفضل كل الفضل يرجع إلى فيلسوف العلم الفرنسي غاستون باشلار في إعادة الاعتبار لمفهوم الخطأ هذا. فعندما قال لا لفلسفة ديكارت، أوضح أنّ الفكر هو أولًا وقبل كل شيء، قدرة على الغلط، وأن للخطأ دورًا إيجابيًا في نشأة المعرفة العلمية. فالحقيقة تستمد معناها عند صاحب فلسفة اللّا، من حيث إنها تقويم لأخطاء. فكأن "وجودها" مدين للخطأ. بل إن "صورة الفكر العلمي ذاته ليست إلا حقيقة منسوجة على أرضية من الخطأ". فلا وجود لحقائق أولى ومعارف بدهية. الأخطاء هي الأولى. في البدء كان الخطأ. وكل حقيقة جديدة تولد بالرغم من البداهة و"كل تجربة موضوعية صحيحة يجب أن تحدِّد دوما كيفية تصحيح خطأ ذاتي". ليس الخطأ والجهل نقصا وعيبا ولا وجودًا. ليس الجهل فراغًا معرفيًا. الجهل كثافة وامتلاء. والمعرفة "لا تصدر عن الجهالة مثلما ينبثق النور من الظلمة". الجهل بنية متماسكة: "إنّه نسيج من الأخطاء الإيجابية الملحّة والمتماسكة".

لا يمثُل البحث العلمي عند الفيلسوف الفرنسي في تعميق ما نعرفه، وإنّما في التخلّص ممّا نعرف، أو ما نعتقد أنّنا نعرفه. ما يعني أن العلم ينمو عن طريق الانفصالات والقطائع

لا يمثُل البحث العلمي عند الفيلسوف الفرنسي في تعميق ما نعرفه، وإنّما في التخلّص ممّا نعرف، أو ما نعتقد أنّنا نعرفه. ما يعني أن العلم ينمو عن طريق الانفصالات والقطائع. فالفكر، أمام المعرفة العلمية، لا يكون قطّ حديث النشأة، بل يكون شيخًا مثقلًا بالسنّ لأنّه يحمل من ورائه عمرًا طويلًا، هو بالضّبط عمر أخطائه. على هذا النّحو لا يكتفي الخطأ بأن يتقدّم الحقيقةَ في الزمان، بل إنّه يتقدّمها شتى أنواع التقدم: فهو الأساس الذي تقوم عليه، وهو علّتها وسبب وجودها. وعندما "يبلغ" الفكر الحقيقة فليس ذلك تطلّعًا إلى أمام، بل مراجعة ورجوعًا إلى خلف. لا عجب أن توحّد العقلانية المعاصرة بين مفهومي الفكر والنقد. الفكر نقد وانتقاد، والنّقد فكر، بل هو كلّ الفكر. فكلّ حقيقة هي دومًا ما كان يلزم أن نعتقد صوابه، وليس ما ينبغي علينا اعتقاده. كل بلوغ لحقيقة لا بدّ وأن يصاحبه نوع من "النّدم الفكري".

لن تعود مسألة المعرفة، والحالة هذه مسألة نموّ وبناء، وإنّما ستغدو تراجعًا و"ندمًا على ما فات"، وما وقع الفكر ضحيّتَه. هذا الالتفات إلى ما فات، وهذا الرّجوع قد يسمّى جينالوجيا الحقيقة، أو حفريات المعرفة أو التّاريخ التّكويني، إلا أنّه يتبع الاستراتيجية ذاتها. لكن ما ينبغي التأكيد عليه هنا هو أنّ هذه الاستراتيجية، بما هي استراتيجية مضادة، فإنّها لا يمكن أن تقوم في انعزال عن مقابلتها، إنّها تقوم أساسًا ضدها ولتقويضها والحفر في مسبقاتها. فلا بناء من غير تقويض، ولا حقيقة من دون أخطاء.