كحال نورسٍ ألِفَ مجموعة مِن السوّاحِ وطفق يحوم فوق رؤوسهم طوال السفرة البحرية، ثمَّة تصور يرافقني منذ ما يزيد عن أسبوعين، وفحواه أنه كما علينا عدم الاعتماد في مسار الحصول على المعلومات التاريخية من كُتّاب معيّنين، خاصةً ممن لا إجماع على مصداقية منتجاتهم المعرفية، أو الحصول على المعلومات الشخصية أو الاجتماعية من جهة وحيدة تعيش في البيئة التي نود الحصول منها على بيانات واقعية أو حقيقية، كذلك الأمر فليس من المنطق السليم بأن نأخذ المسرودات من أي مسنٍ لا على التعيين ونعتبر ما يبوح به تأريخ أو تراث، بما أن ليس كل مسن مؤهلًا ليتبوأ دور المصدر الوثيق مهما عاش من السنين، بما أن بعضهم أشبه بأسلاك ناقلة ولا قدرة لهم على العزل والفصل والتفريق والتحري ومعرفة مصادر المواد التي حفظوها من الغير ومن ثم أوصلوها إلى مسامع الأحفاد، وهو التخمين الذي يقربنا نوعًا ما من فحوى ما ذكره طاغور في يراعاته بقوله: "بعضهم يعبر الحياة، كالطفل الذي يقلب صفحات كتاب، مقتنعًا بأنه يقرأ فيه"، وذلك على اعتبار أن ليس كل من قلّب كتابًا يكون ممن قرأه، وبالتالي ليس كل من عمّر طويلًا يكون مرجعًا أو موضع الثقة الكلية للأخذ عنه أو الاعتماد عليه.

إن الإضافات والتحسينات وتغيير أسماء الأشخاص والأماكن، جعلت" ألف ليلة" تبدو عربية أكثر مما هي مترجمة أو مستوردة

وعن خطأ التعويل على ذاكرة أشخاص معينين، حيال تشابه وتداخل القصص لدى بعض الأمم وشعوب المعمورة، يذكر معد وجامع القصص الفلكلورية لشعب التبت الكابتن و. ف. أوكونور، بأنه بعد أن بذل جهدًا كبيرًا ليصل إلى منابع الفلكلور التبتي، حيث عاشر الكاتب أثناء عملية البحث أصدقاء من كل فئات المجتمع، من الطبقات الدنيا والعليا، من الميسورين والمعدمين، ولكنه تفاجأ بأن بعض القصص الجميلة جدًا من التي أخذها من أفواه بعض المعمرين التبتيين كانت مستوردة بكاملها من ثقافات دول الجوار، أي الهند والصين، مع تلوينات مضافة على تلك القصص المستوردة والتي أُلبست بإضافات محلية جعلتها تبدو وكأنها بنت تلك البيئة، وذلك على غرار قصص ألف ليلة وليلة، وحيث إن الإضافات والتحسينات وتغيير أسماء الأشخاص والأماكن، جعلتها تبدو عربية أكثر مما هي مترجمة أو مستوردة من الفارسية والهندية.

اقرأ/ي أيضًا: "إن كان بدك تعشق".. ثقافة الأطراف على طاولة فواز طرابلسي

وتأكيدًا لما قاله أوكونور فإنني كمصغٍ لا بأس به لأحاديث المعمرين، سمعت أكثر من مرة قصة الثعلب الذي تخلص من البراغيث العالقة بفروته من عم والدي واسمه محمد إيبش والملقب بـ"keko" والذي عاش ما يزيد عن قرنٍ من الزمان، ومع أن الراحل لم يقرأ كتابًا بالعربية غير القرآن الكريم، وكان صاحب منهج حياة معتدلة في جميع النواحي، ولم يكن متطرفًا في أي مجال من مجالات التطرف الديني أو القومي أو المذهبي أو العائلي، كما أن أبعد مشوار له أوان الزيارات المرضية كانت إلى مدينة حلب، وبقي طوال عمره في القرية وبعض الأحيان يقيم في ناحية "Cindirêsê" التي تتبعها قريته أي قرية "Gorda"، وبناءً على دماثة الخُلق وتلك الخصال الحميدة بمجملها كنت أستسيغ سماع الحكايا وأحداث المنطقة منه، ومن بين تلك القصص الشيقة، كان يسرد قصة الثعلب الذكي الذي تخلص من البراغيث، وذلك بلغة كردية جميلة، وتحديدًا بلهجة أهل منطقة عفرين، فيُخال سامع القصة مِن فيهه وأنا منهم وكأنها وقعت في نهر المنطقة أمام نواظره، ولا يخطر ببال المستمع قط احتمالية أن تكون القصة مستوردة أو مترجمة من لغة أخرى، والتي جاء فيها أن "ثعلبًا كثرت البراغيث في فروته، وبعد أن ضايقته البراغيث، فما كان عليه للتخلص من تلك الطفيليات المزعجة إلا أن يحمل قطعة صوف في فمه، ويذهب إلى نهرٍ على مقربةٍ منه فيدخل بدايةً ساقيه في الماء، وعندما وضع ساقيه في النهر انتقلت البراغيث من رجليه إلى أعلاه، واستمر الثعلب بالتقدم وهو يدخل كامل جسمه في الماء حتى تجمعت البراغيث كلها في رأسه، بينما قطعة الصوف ما تزال في فمه، عندها قام الثعلب فجأة بإدخال رأسه في الماء تاركًا قطعة الصوف فوق الماء، وغطس بكامل جسده لتجتمع البراغيث كلها في قطعة الصوف، مبتعدًا عدة أمتارٍ من تحت الماء ليخرج بعدها وقد تخلص من كل البراغيث".

بدايةً وخاصةً عند سماعي للقصة من فم الراحل (keko) خلت بأن القصة بنت المنطقة، ولكني عقب سنوات وبعد البحث بواسطة الخادم التكنولوجي عما يشبهها من القصص، فقد وجدت نفس القصة منشورة في مواقع متفرقة هنا وهناك، كما صادفتها في كتابٍ خاص بالأطفال صادر عن وزارة الثقافة السورية تحت عنوان "أمثال العرب.. حكمة بلاغة أدب"، ويبقى السؤال ما السر في وجود نفس القصة في الثقافتين؟ وإذا كان مؤلف كتيب الأطفال قد أحالنا إلى كتب أخرى للأمثال استقى منها معلوماته، فممن سمع الحج (keko) تلك القصة؟ وكيف وصلت إليه في تلك القرية المحصورة بين سلاسل من الجبال، والتي قال عنها يومًا درويشٌ يدعى  "seydo paşo" بأنه لا يحب أن تدوم زيارته إلى تلك القرية والمكوث فيها، لأن "نهارها قصير وليلها طويل" حسب زعمه، وذلك بسبب مكان القرية الواقع في سفحٍ مطوَّق بسلسلة من الجبال.

بعض قصص الحياة أشبه بالبشر أنفسهم، إذ كما نشأ الآدمي في غابات الأمازون وفي أفريقيا كذلك الأمر خُلقت وشبت معه بعض الحكايا التي تشبه قصص باقي الملل

وإذا كان غياب التاريخ والزمن وكذلك غياب العلامات الفارقة للبيئة والجغرافية والمكان تجعل القارئ حائرًا وغير قادر على التأكد من البيئة الحقيقية التي جرت فيها واقعة الثعلب، فإن ثمة حكمة أخرى ورد ذكرها في الصفحة 23 من الكتاب نفسه، وجاء فيها، "قالت الحكمة العربية: إنما جعلت لك اذنان ولسان واحد ليكون استماعك ضعف كلامك"، علمًا أن قول: "لقد خلق الله لنا أذنين ولسانًا واحدًا.. لنسمع أكثر مما نقول" ينسب في عشرات المواقع والكتب والدوريات والصحف لسقراط اليوناني؛ كما أن الجملة التي غدت مضرب الأمثال في الثقافة العربية أي: "تمخض الجبلُ فولد فأرًا" موجودة ضمن قصص الكاتب الإغريقي إيسوب والذي كتبها قبل الميلاد بعدة قرون، وكذلك الأمر قصة الثعلب الذي لم يصل إلى العنب، فقال عنه حامض، والتي صارت مثلًا دارجًا وغنتها الفنانة الإماراتية أحلام، موجودة هي الأخرى لدى الكثير من شعوب المنطقة، كما أنها وردت كذلك ضمن قصص إيسوب الإغريقي.

اقرأ/ي أيضًا: في ذكرى وفاته.. ماذا قال الأبنودي عن ابن عروس؟

فبعد هذا التداخل والتشابه فمن هو المصدر الحقيقي ومن هو الثانوي إذًا؟ وما هو الأصل المنقول عنه؟ وهل يحق للكاتب نسب قصة ما وردت في ثقافة أكثر من ملة إلى شعب معين؟

أسئلة كثيرة تراودنا حيال المسألة، لكن عوضًا عن الغرق في تيه وصعوبة الجواب بتصوري أن بعض قصص الحياة أشبه بالبشر أنفسهم، إذ كما نشأ الآدمي في غابات الأمازون وفي أفريقيا وفي أمريكا وفي بلادنا، كذلك الأمر خُلقت وشبت معه بعض الحكايا التي تشبه قصص باقي الملل، وكما أن ذلك الإنسان نفسه من حيث الشكل والملامح والأهداف والأحلام والذاكرة يشبه بشر آخرين لم يجتمع بهم قط، وكيف أن الظروف شكلته هو ومجتمعه البشري هناك، كذلك الأمر جرت الحوادث المماثلة والشبيهة ببعضها البعض، والتي تحولت فيما بعد إلى ذخيرة وقصص مجتمعية مع الزمن تشبه قصص المجتمعات الأخرى البعيدة عنها آلاف الكيلومترات.

وفيما يتعلق بالإتيان من الثقافات المجاورة أو البعيدة ومن ثم تنسيب المجلوب إلى ملة بعينها، فإذا قلنا بأن الإنسان البسيط سواء في التبت أو في بلادنا ممن لا معرفة له بأصل القصص التي يرويها، مَن صاحبها؟ وأين جرت أحداثها؟ وإلى أي ثقافة تنتمي؟ وكيف وصلت إليه؟ وممن سمعها؟ ولا يعرف بنفس الوقت أصول الاقتباس والاستشهاد، وكل ما في الأمر أنه سمع من سلفه ما سمع وحفظ عنه ما قيل في حضرته، ومن ثم قام بروايته للأولاد والأحفاد، فيا ترى هل ينسحب ذلك التصرف نفسه على الكاتب العارف بأصول النقل والترجمة؟ أم أن على الكاتب أن يتأكد مما يورده من المعلومات ويضعها بين طيات منتجاته المعرفية، وبالتالي ألا يسمح لنفسه الوقوع في ذلك المطب أو الإغارة على منتجات الآخرين وتنسيب ما قالوه أو كتبوه إلى نفسه أو إلى ملة من الملل؛ على كل حال فإن تصرف الإنسان البسيط الذي لا يعرف بأن ما يرويه هو شيء يخص الآخرين، وكل ما في الأمر أنه سمع من سلفه ما سمع، وراح يروي ما تلقفه منه أينما حط رحاله من دون درايته شيئًا عن الأصل والمنبع والمصدر الأولي لما يبوح به، يبقى أقل ضررًا وأخف مسؤولية من ذلك الكاتب أو الناقد أو المترجم العارف بأصول النقل والترجمة والكتابة، لكنه مع ذلك يخفي أو يطمس كل تلك المعلومات المتعلقة بالمصدر الذي استقى منه علومه، لكي ينسبها فيما بعد إلى عشيرته أو ملته.

تظل أخطاء الراوي الشفاهي البسيط أقل ضررًا من تصرفات المثقف المحقون حتى الامتلاء بأمصال الأدلجة

اقرأ/ي أيضًا: راوية الحكايات

كما من شبه المؤكد بهذا الخصوص أن تصرفات الراوي الشفاهي البسيط تظل أقل ضررًا من تصرفات الكائن المحقون حتى الامتلاء بأمصال الأدلجة، إذ من الخطورة بمكان التعويل على ذاكرة أو معلومات الشخص المصاب بهوس الأدلجة، وذلك سواء كانت أيديولوجيته دينية أم قومية أم مذهبية أم سياسية، لأن الكائن الذي تم أدلجته إلى حدود القولبة من أسفل قدمه الى قمة رأسه، لن يتحدث عن أي موضوعٍ ولن يسرد قصةً إلا من خلال النفق الأيديولوجي له، فإن تحدث بمعلومات واقعية أو سياسية أو ثقافية سرعان ما يدس روائح الأيديولوجيا التي يحبها ويؤمن بها بين طيات ما يتحدث عنه أو يرويه، سواء كان ذلك عن عمد أو بدر منه ذلك السلوك عفو الخاطر، باعتبار أن الأيديولوجيا تدفعه تلقائيًا إلى أن يُطعِّم كل ما يرويه بشيءٍ من بهارات أيديولوجيته المركونة في قاع اللاشعور.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيف ارتبط النيل بحياة المصريين؟

الغناء اليمني ومذاهبه.. ينابيع الثراء الروحي