23-يوليو-2015

بطرس المعري/ سوريا

كانت قد مضت ساعتان على وفاة والده، وأولاد عمومته حوله بالكاد تمكنوا من تهدئته. كان قد فرغ توّاً من بكائه، وصار يصغي فقط إلى نواح النسوة في الغرفة المجاورة، حين أطل عمه وربت على رأسه بحنية، وقال له ولأبناء عمومته: اذهبوا وأعلموا الناس بوفاته، دقوا على كل الأبواب.

كانت المدينة مختلفة عما هي في ذاكرته

توجّه إلى أحدهم بالقول: لا تنسَ أن تُعلم المحافظ ورئيس البلدية ورئيس المخفر بالأمر.

هزّ جميع الصبية رؤوسهم ممتثلين، ونظر العم بحنية مجدداً إليه، قبل أن يقول لابن عمه الأكبر:

خذه معك، دعه يساعدكم أيضاً.

خرج الصبية مسرعين، وهو رافق ابن عمه الأكبر، وبدؤوا يطرقون على الأبواب ويعلموا من خلفها بخبر الوفاة. ومعظم الناس يتعرفون عليه ويعزونه ويغدقونه بكلمات مواساة وتأثُّر.

لاحقاً انفصل عن ابن عمه وصار هو وحده يخبر الناس بوفاة والده. في البداية كان الأمر صعباً عليه، ولكن لاحقاً استطاع أن يجد صيغة لا تحرجه. كأن يقول اسم والده وكأنه شخص غريب عنه، وإن لم يتعرّف عليه الناس فهو يمضي إلى الباب المجاور مرتاحاً وراضياً عن النتيجة، وإن عرفه بعضهم يذعن ذليلاً إلى كلماتهم المواسية.

في السابق، كان الأمر أسهل بكثير، كانت عائلة المتوفي تنشر الخبر عن طريق الاتصال الهاتفي أو عبر النداء في الجامع، ولكن بعد الثورة والمعارك العديدة التي وقعت حول المدينة، انقطعت الكهرباء لساعات عديدة، وبات صعباً الاستفادة من الوسائل التكنولوجية الحديثة. وللأسف، كان موعد وفاة والده سيئاً جداً، فقد انقطعت الكهرباء في لحظة رحيله، وفي العادة تأخذ ساعات كي تعود، وكان عليهم إخبار الناس بوفاته كي يتحضروا للجنازة غداً.

كان قد وصل إلى أطراف المدينة، ووقف قبالة البيت الأخير في هذه المنطقة. لكنه كان متردداً، هل يطرق الباب أم يعود أدراجه؟ حين قال عمه جميع الناس، هل كان يقصد ساكنة هذا البيت أيضاً؟

مضت دقائق عديدة قبل أن يقرّ قراره ويطرق الباب.

لا أحد في المدينة يعرف اسمها، يطلقون عليها لقب "الراوية"، فهي تمتهن سرد الحكايات على الناس. جاءت إلى المدينة في بداية الثورة، وكان الناس يُقبلون عليها لسماع حكاياتها الشيّقة. لم تكن تستقبل الناس إلا مرتين في الأسبوع، نهاراً تزورها النساء وليلاً يحضر الرجال. حكاياتها لم تكن دائماً تحتمل الاختلاط بين الجنسين، لكن مع مرور الوقت واشتداد المعارك وانقطاع الكهرباء وخشية الناس من البقاء ليلاً خارج البيت، صار الحضور مختلطاً، إذ فشل الرجال في إرغام نسائهم على التوقف عن زيارتها، وأذعنوا أخيراً إلى مرافقتهن.

لا أحد يعرف شيئاً عن ماضيها، ولكن ثمة قصة شائعة حولها لا يُعرف لها مصدر، خاصة وأن المرأة لا تقول عن نفسها وماضيها شيئاً.

يُقال إنها ابنة أحد التجار في إحدى البلدات المجاورة، لكن لا أحد يعرف أين. كانت متزوجة حديثاً من أحدهم، حين وقعت الحادثة وتغيّر حالها ومصيرها إلى الأبد. تعرض أستديو المصور الوحيد في البلدة إلى الحريق، وقد مات نتيجة ذلك وتلفت معظم أفلامه وصوره. إلا أن بعضاً منها نجا من الحريق وكان كافياً كي يثير فضيحة في البلدة كلها. الصور الناجية كانت لها وهي عارية في وضعيات مختلفة، ومنها ما كان حديثاً ومنها الآخر ما كان صوراً لها وهي طفلة.

يُقال إن المصور العجوز كان صديقاً قريباً لوالدها، وإن الأخير كان يثق به إلى درجة يسمح لابنته أن تقضي وقتاً طويلاً في محله أو ترافقه في مهماته للتصوير خارج الأستديو. بعد الفضيحة طلقها زوجها، وحبسها أهلها في البيت لا يعرفون ما يفعلون بها، لكنها تمكنت أخيراً من الهرب واللجوء إلى هذه المدينة بعد أن سرقت بعضاً من مال والدها.

ويزعم بعضهم أنها تعلمت رواية الحكايات من المصور العجوز نفسه، لكن لا شيء يؤكد القصة، واكتفى الناس بتصديقها لأنه لم يكن في جعبتهم حكاية أخرى بديلة.

- أنت ابنه؟

- أجل.

دعته المرأة فوراً إلى الدخول، لكنه رفض متحججاً باستعجاله. اقتربت منه ونظرت مباشرة في عينيه: هيا ادخل. استرح قليلاً من الموت حولك.

كانت نظرتها كافية كي تقنعه بالدخول. كانت هذه المرة الأولى التي يدخل إلى بيتها. أجلسته في غرفة الجلوس وجلست قبالته، وسألته: - كم عمرك؟

- ستة عشر عاماً.

- تعرف أن الناس لا يحبذون رؤيتي بينهم، ويتجنبون الاختلاط معي خارج هذا البيت وخارج سياق سردي للحكايات.

كان يعلم، إلا أنه قال: لماذا؟

-لماذا؟ وحدقت في عينيه تلك النظرة المدوّخة ذاتها، لا أدري، أو ربما أعلم ولكن لا رغبة لدي كي أشرح. سكتت للحظة قصيرة، هل تريد أن تشرب شاياً؟

هزّ رأسه موافقاً، فنهضت فوراً إلى المطبخ وهي تقول: أرجو أن أعود من المطبخ وأجدك ما تزال هنا.

كانت تبدو في أواخر العشرينات من عمرها، جميلة، سمراء البشرة، ذات ملامح حادة ونظرة لعوب. كان قد رآها مراراً من قبل، ولكن هذه هي المرة الأولى التي تسحره فيها، ربما السبب هو نظرتها المباشرة.

عادت من المطبخ ومعها كوب الشاي، وكانت السعادة واضحة على محياها لرؤيته مجدداً، وكأنها فعلاً كانت تخشى أن يذهب. قدّمت له الشاي وجلست قبالته وحدقت فيه: لا بد أنك حزين على موته كثيراً.

هزّ رأسه موافقاً، فاستطردت هي: دعني أريحك من كل همومك!

واقتربت منه زاحفة على ركبتيها، وحين تمكنت من الاستقرار بين ساقيه، بدأت بفكّ أزرار بنطاله، وكشفت عن عضوه الخامل، وفوراً وضعته في فمها ونبهته، ولم يمر وقت طويل حتى أفرغ الصبي منيه في فمها.

جلست إلى جانبه تحدق فيه مجدداً: ما رأيك أن تنسى كل شيء وتبقى عندي؟

ما الذي يحدث؟ هذا ما كان يخطر في بال الصبي طوال الوقت. كان سعيداً ومسترخياً ومرتبكاً في الوقت عينه. كل شيء يبدو له خيالياً وفي الآن نفسه واقعياً حدّ الملل. أحسّ بشيء أكثر من ذلك، لقد أحسّ بأن كل شيء حوله حقيقي. لذلك، لم يتردد طويلاً حين أخبرها بجوابه: موافق.

وضعته في قبو المنزل، وربطته إلى سرير موجود هناك. كانت تعمل على إطعامه وغسيله وتسليته. وحين طلب منها أن تحكي له حكاية، رفضت وقالت: لك، لن أحكي أي حكاية، سأقرأ لك من كتبي. لدي العديد من الكتب. لن تشعر بالملل أبداً. صدقني!

وهذا ما كان. كانت تقضي معظم وقتها عنده تقرأ له. لم يكن يعرف من أين جاءت بكل هذه الكتب، ولكن طوال سنين عديدة لم تتوقف عن قراءة كتب جديدة له: بورخيس، كافكا، شيللي، مالرو، مارلو، ت. س. إليوت، إرنستو ساباتو، ألف ليلة وليلة، سارتر، غابرييل غارسيا ماركيز، المقامات، أندريه جيد، أوسكار وايلد، كليلة ودمنة، تشارلز ديكنز، هيغيل، باكونين، ماركس، حنة أرندت، نيتشه، السيّاب، وليام بليك، ألبير كامو، امرؤ القيس.

كانا يمارسان الجنس بكثرة، لم يتعبا يوماً من ذلك. وكل يوم تزداد هي جمالاً وجاذبية. سحرها لم يتوقف يوماً عن عينيها وكلماتها.

مرتين في الأسبوع تروي الحكايات للناس الذين يزورونها في البيت، وباقي وقتها كله لهما وحدهما.

بحث عنه أهله لمدة طويلة لكنهم يئسوا أخيراً، فجرائم السرقة والقتل والخطف كانت قد ازدادت، ولم يكن بعيداً أن يكون هو أيضاً ضحية لإحدى هذه الجرائم. كان حديث المدينة كلها لوقت طويل، لكن أخيراً تغيرت أحوالهم وكثرت مصائبهم ونسي هؤلاء قصته. فقد دخل الثوار مرة إلى المدينة، وعمد النظام إلى قصفها وقتل الكثير من المدنيين، مما اضطر المسلحين إلى الخروج. لكنهم عادوا مرة أخرى، وعاد النظام إلى قصف المدينة، وخرج المسلحون ودخل النظام ونكّل ببعض سكانها ممن وجد عندهم تعاطفاً مع الثوار.

ومضت سنين عديدة على هذه الحال، وتوقف الناس عن زيارة راوية الحكايات، وبدأ الوهن يدبّ في جسمها. لقد تغير حالها وفقدت بريقها وجمالها شيئاً فشيئاً. وحين علمت أن لا عودة عن ذلك، وأن المرض يزحف إلى جسمها، وخشية منها أن يتوقف هو عن حبها عمدت إلى إطلاق سراحه، وطلبت منه أن يغادرها ويعود إلى أهله، لكنه أبى وبقي إلى جانبها يعتني بها، حتى جاء اليوم الذي ماتت فيه.

دفنها في قبو المنزل، وخرج من البيت لأول مرة في حياته منذ سنين عديدة. كان قد كبر كثيراً، لا يعرف كم من السنين قضى في القبو أو كم أصبح عمره. والمدينة كانت مختلفة عما هي في ذاكرته، وأقل سحراً من المدن التي كان يسمعها من الكتب التي كانت تقرؤها له.

كانت الثورة قد انتهت منذ مدة قريبة، وسقط النظام، وأجزاء كثيرة من المدينة ما تزال مدمرة، وتغير الناس وتغيرت أحوالهم واهتماماتهم. مشى في المدينة التي كثر فيها الغرباء ولم تخرج بعد من حدادها. مشى محدقاً في الوجوه التي لم تهتم به أو تتعرف إليه، وهو أيضاً فشل في التعرف إلى الناس. لم يذهب إلى بيت أهله، بل أكمل سيره خارجاً من المدينة من غير هدى، كان يبحث عن عالم أكثر سعة.

انتهى به المطاف في مدينتنا قبل سبع سنين، ودأب على سرد الحكايات للناس. ليس له مكان أو بيت محدد، تراه في كل مكان. لا يطلب شيئاً مقابل حكاياته، بل أحياناً يترجى الناس كي يستمعوا إلى إحدى حكاياته. لا يستطيع العيش من دون رواية القصص. تراه دائماً بين الأطفال يسرد عليهم الحكايات، هو الوحيد القادر على دخول أي بيت في المدينة. الفتيات يستدعينه دائماً كي يسمعن منه حكاية. في المقاهي يطلب منه الشباب والرجال رواية حكاية. لم يتوقف يوماً عن الرواية، ولم يتعب أبداً، وهذه كانت الحكاية التي سردها عليّ حين استفسرت منه عن ماضيه. لا أعلم إن كانت قصة حقيقية أو لا. لا أعلم إن كان جزءاً منها حدث فعلاً أو لا. ولكني أصدقه.