02-نوفمبر-2016

سما الشيبي/ العراق

هباءٌ في الجهاتِ وسِرْ! 
عَجِلٌ مساءُ المدينةِ يلتفُّ كعاقرٍ على أولادِ الخيالِ. المصاطبُ تُعْلِنُ إفلاسَ الشواربِ، لا مهنةَ في مساءِ الرجوعِ إلى الصِّبا. لا حكايةَ ولا بطولةَ، حنينٌ فقط لِتذكارِ مَنْ ذهبوا في معادنِ الأشهرِ، في رُكامِ الأرقامِ تتقافزُ في الساحاتِ، في كبريتِ البردِ لا يحترقُ؛ عَجِل كَبَطْنٍ تحملُ فضيحةً، كمساءِ أرملةٍ تذرعُ الشهوةُ فخذيها.

موحشٌ وباطلٌ الضوءُ حينَ يفضحُ مستورًا طالَ رُقادُهُ. باطلٌ وقبْضُ ريحِهِ عقابُ تفكُّكِ الأحلامِ على الأماسي. 
أمسيةٌ بوشاحٍ يطيرُ، والصباحُ دافئٌ بِعُريِهِ.

(القرآن ينبعث من راديو جدّتي. تحضر مجالس العزاء إلى بيتها. رائحة البخور تستكمل الطقس. تُسبّح بأصابعها: قُل "يا الله" قبل أن تجلس أو تقوم، قُل "يا الله" حتّى تكبر وتدخل المدرسة، قُل كذلك ليأتي والدك بالدراجة الهوائية وتنثرها على الإسفلت.

كم فتشت عليك.
تقشّر جلدي على الجدران وأنا أُفتّش عنك. أتخيّلك ستأتي في الليالي الحالكة لتحدّثني. ما هو شكلك؟ وصوتك؟ ورائحة البخور تلك، رائحتك؟
أين أنت؟
أخبرني قريني أنّك مسنّ بلحية ناعمة وملساء، كان رآك في الحلم، ووعدته بدراجة، ولم تأتِ بها. كان يشتم جدّتي لأنها تحبك وتعلّمني على المودّة بيننا.

لماذا تنافس والدي في محبّتها؟ 
من؟ عيدة.. جدتي التي لم يدخل العيد بيتها ولمّا تزل تنتظرك.
أخذتني إلى إمام عندما كنتُ في السادسة. دسّت أصابعي في ضريحه، وطلبت منّي الدعاء. أجهشتْ بالبكاء وهي تطلب منك بكلمات عجولة ما لم أفهمه. خلتك في الداخل، وتخجل الخروج إلينا. أو أنك مريض ولن تستطيع لقاء كل الناس. سجدتُ كما فعلتْ، وطلبتْ منّي قراءة الدعاء على بوابتك عند الخروج "أَأَدْخُلُ يَا مَوْلايَ". ظننتها تعويذة في البدء، لكنها لم تكن كذلك).

سِرْ ولا تجدْ مَنْ سبقوك! 
الطريقُ نفسُها مفلسةٌ من الخيالِ. إطلاقُ رصاصةٍ عجلى تَقتُلُ وتَموت.
الكرزةُ التي ماتت
في مشهدٍ أباحَ التأويل
أخطأتْ تصويبَ خوفِها إلى بطنها
أجدرُ بها أن تشدَّ حملَها إلى جذعِ المدينةِ وتنامَ فارغةً من الحياة. أجدرُ بها أن تؤسطِرَ انتفاخَها، كأنْ تطير في المنامِ والآلهةُ يتراقصونَ بدفوفٍ حولَها -الصينُ تُحِلُّ صُنْعَ الخرافةِ في الفضيحة.

(كان سحرك كبيرًا ويزداد كلّ يوم. كانت عيدة تحدّثني عن فضلك عليها طيلة النهار، لكنها في الغروب، تدلع رداءها من عند صدرها وتعتب عليك لأنك لم تُعِد ولدها. 
هل تذكر حسين؟
العقائديون قتلوه في حربٍ كان الصراع فيها على اسمك يشتدّ، ويشتدّ معه الموت).

ستأتي... بوشاحِ الحكايةِ، تزمُّ شفتيها على سرٍّ نامَ في طريقِ ذهابِك. البطنُ انتفخَ أكثرَ، الحكايةُ تلتصقُ بالأحفادِ كلما تَسامروا على القَحْطِ. تكتبُ... كأنْ تعترفَ بأفعالِ غايةِ إلهٍ. الصورةُ معتمةٌ في ضوءِ السِّجنِ، وفي ضوءِ الحفلاتِ الوطنيّةِ. البطنُ منتفخةٌ ولا يُحلُّ التمنّي الحياةَ. ناقصٌ كلُّ شيءٍ، ورغمَ هذا، الحكايةُ تكتملُ في لسانِ الأعياد. 

(جرّتني أسطورتك إلى ملاليك في الثالثة عشرة. كنت يافعًا وأودّ رضاك كي تشدّ عودي وتجعل السراويل تليق بي، وتنفخ عضلاتي لأرفع كمّ القميص عند الزند. كنت يافعًا وكان الموت أقل. لم يكن القلب عليلًا، ولا أناس البلاد التي طفتها متوحشة).
دخلت إلى حسينياتك وكلّي يقين بأنك سترفع الحزن عن جدّتي بعد أن دلّتني على محبّتك. جلست إلى الشيوخ وسمعت هراءهم. كانوا يستغلّونني باسمك. ثلاثة أشهر وهم يضعون أكياس الأرز على ظهري لأتقرّب بها إليك. لم يكتشف والدي هذا، كان يكدّ ولم تنظر إليه، حتّى وشى بي صاحبه، ومنعني من مجالسة ملاليك حتّى لا أكون بغلتهم التي سترمي نفسها عن جبل العقائد).

تُكرِّرُ الحكايةَ نفسَها -على مسامِعِكَ-
تنفصلُ عن نَفْسِكَ وتتحدَّثُ عن اثنينِ في جسدِك

( أتذكر؟
كان أقراني يسبحون بدمائهم في شهر محرّم، وصاروا يُدرّبون على كره الطوائف، ويطمعون بالوصول إلى حواريك وولدانك المخلّدين. لكن هذا لن يحصل إن لم يحملوا الأكياس.
كان والدي يحبّ عليًّا، ولم يكفر بكَ يومًا، لكنه كان ينظر إلى صلاتك كـ"تمارين سويدية" لا تُقرِّب إليك، ولا تأتي ثمارها، فالذي خلق الكون كلّه، لن يرضى بعبادته بهذا الشكل. لن يقبل بأن يُختصر بكلمات تُقال على عُجالة وهو ساجد. كان يؤمن بأن منح الناس المحبّة والمساعدة هو العبادة كلّها، بينما شدّني أنا زيّ الملالي، شدّتني العمّامة الناصعة السواد والبياض، وخواتم الخرز الملوّن التي فيها روحك ومكارمك. اعتقدت أن أولئك يحدّثونك ليلًا، يطلبونك إلى مساعدة مريديهم، وكنت مريدهم ولم تلفت)

تُكرِّرُ الدائرةُ نفسَها في كلِّ مناسبةٍ وتُعيدُ خلقَ القصص. تنبشُ الأعيادُ ما دفنتْهُ ساعةُ الروائيّ. اللسانُ دائمًا يُمرِّغُ نَفْسَهُ في الروحِ والجّسدِ... يحفرُ في القلبِ، ينتشلُ الدّمَ كلَّهُ ليجعلَ الأشياءَ صفراءَ، كيومِ بلاد لا خَضَارَ في نزهاتِها.

(في السابعة عشرة قرأت "موتك" على يد "نيتشه". كانت رصاصته قوّية كدوّي الانفجارات. ورغم رصانته لم أرضَ لكَ ذلك حينها. قلتُ ستلتفت عمّا قريب. قلت كل السائرين إلى أوليائك سيحثّونك إلى رحمتهم من جور رجالك وملاليك. قلت ستعرّي جلابيبك عنهم، وتتركهم، وسيكشفهم طفل كما كشف الإمبراطور مرّة، إلا انك صممت أُذنيك.
لم يتبقّ لي الآن إلا الخواتم، 
وكُتب "نيتشه"،
فهيت لك).

* مقطع من كتاب "الحياة بنقالة متهالكة" الصادر حديثًا عن "دار مخطوطات" في هولندا.

اقرأ/ي أيضًا:

فارس في المشهد الأخير من فيلمه الوثائقي

آخر يهود العراق