12-يونيو-2019

من الفيلم (IMDB)

علامة تجارية ناجحة بقوة تُحوِّل المشروب الأكثر شعبية في العالم، وهو القهوة، إلى مشروبٍ سحريّ، متعدد الجنسيات، يأتيك من بعيد وتشتريه بسعرٍ مرتفع، يمنحك الإحساس بأنك واحدٌ من جيل العولمة، وعليه فأنت بالضرورة شخص ناجح، وبالتالي أنت أعلى من البقية. هذه العلامة السحرية التي تصنع كل ذلك هي ستاربكس. غيرت الشركة العابرة للقارات وجه صناعة القهوة وتقديمها كما أثرت على طلبها وطريقة شربها. ولكن ما هي الحقيقة وراء كل هذا السحر؟ وما الثمن المدفوع من أجل الحصول عليه؟

غيرت ستاربكس، الشركة العابرة للقارات، وجه صناعة القهوة وتقديمها كما أثرت على طلبها وطريقة شربها

للوقوف عند ذلك الوجه الخفي لمشروبنا المفضل، قدم تلفزيون ARTE فيلمًا وثائقيًا بعنوان "ستاربكس من دون فلتر" (Starbucks sans filtre).

اقرأ/ي أيضًا: كوب ستارباكس الذي لا يحب المسيح

يكشف من خلاله المخرجان لوك هيرمان وجيل بوفون عن هاجس الربح وراء قناع المشاعر الطيبة والوجه السموح لعروسة البحر، ينقبان عن الصورة الحقيقية لها، كعلامة تجارية فاخرة لا تقبل المساومة، وواحدة من أكبر الشركات التي ترمز إلى شكل الاقتصاد المعاصر في العالم. قام المخرجان بإجراء تحقيقات لمدة عام كامل في ثلاث قارات، لفهم أسباب هذا النجاح الهائل، والكشف عن الجوانب الخفية لكوب القهوة. تقدم أحد الصحفيين المتطوعين إلى ستاربكس بطلب توظيف وحظي بوظيفة لمدة شهرين في أحد متاجر هذه الشركة، ومن ثم نقل شهادته عن ظروف العمل والجوانب السريّة لصورة أشهر المقاهي الأمريكية وواحدة من أكبر شركات الاستهلاك في العالم.

ما هي حقيقة المقاهي المهيمنة على العالم؟

طبعت سلسلة المقاهي الأمريكية بصماتها باللون الأخضر والأبيض في مدن مختلفة من العالم، من مدينة سياتل شمال غرب أمريكا، مهد الفكرة الأصلي، وحتى الصين، عروسة البحر حاضرة بابتسامتها التجارية المميزة، فهي مصنوعة من أفخم حبوب البن في العالم، تدعوك لعيش تجربة فريدة من المتعة والألفة في مقاهيها، فشركة القهوة ستاربكس تتمتع بصورة براقة عند محبيها، وباعتبارها علامة تجارية راقية يقبل عليها عدد كبير من محبيّ القهوة الشباب والكبار.

من خلال 28 ألف متجر في أكثر من 75 دولة ونحو 350 ألف موظف، تعتبر هذه المقاهي متعددة الجنسيات مثل غيرها من الشركات، تعرض قيمها الأساسية من خلال صورة ناصعة عن شركات عابرة للقارات، ملتزمة بالقوانين والشروط، مراعية للالتزام البيئي، وكذلك قواعد الصحة وفق درجة عالية من الخبرة عند موظفيها، وثقة لا محدودة من قبل الزبون، الذي أطلقت عليه الشركة اسم الشريك، وصار هناك أشبه ما يمكن تسميته علاقة خاصة تجمع محبيّ القهوة من الزبائن مع الموظفين الجادين المرحين والساعين لإرضاء شركائهم. وهكذا من خلال صورة ملّمعة غزت ستاربكس مدن العالم، ودخلت حياتنا من خلال هذا المشروب اليومي والضروري، واستهدفت بشكلٍ مباشر الطبقة الوسطى التي تعيش في تلك المدن. مع العلم أن كل مدينة من مدن العالم حتى أكثر مدنه فقرًا، فيها أفران ومقاهي محليّة، تقدم حلويات ومشروبات المكان الأصيلة، إلاّ أن حلويات ستاربكس ومشروباتها تجذب الشباب العصري أكثر، تلك الحلويات المصنوعة في معامل هولندية للتصدير إلى كل فروع ستاربكس في العالم، منحت الشركة فرصةً كبيرة في السنوات الفائتة للتهرب من دفع الضرائب، كما أنها لا تطابق المعايير الغذائية الصحيّة، فهي تحتوي على 99% سكريات ودهون وما يقارب 1200 سعرة حرارية في كل كوب قهوة أو غيره من المشروبات، مضافًا إليها كريمة أو كراميل أو غيرها. وبذلك نجحت ستاربكس في صناعة قهوة بسعرات حرارية كبيرة، واستطاعت من خلالها جذب كارهي شرب القهوة، أو من لا يفضلون شربها بعد منتصف النهار إلى مقاهيها عبر مشروباتها الغازيّة والمحلاة.

ما الذي يخفيه كوب قهوة واحد من عند ستاربكس؟

لديك بعض الوقت للثرثرة واللقاءات؟ تحتاج للدراسة والعمل في مكان مسلٍّ، لا تمل فيه ولا تغرق في الكسل؟

من خلال صورة ملّمعة غزت ستاربكس مدن العالم، ودخلت حياتنا من خلال هذا المشروب اليومي والضروري، واستهدفت بشكلٍ مباشر الطبقة الوسطى

عندما تدخل عزيزي الزبون إلى واحدة من مقاهي ستاربكس في أمريكا، ستجد بأن هناك موظفين من جنسيات متعددة باستقبالك، بابتسامة صريحة وعيون لامعة يسمعون منك طلبك، تلك اللحظات غاية في الأهمية، يحسب لها حساب، ومن ثم يطلبون اسمك وفي هذا طريقة ذكيّة حتى تشعر بأنه مرحبٌ بك على الدوام. هذا ما تعمل ستاربكس عليه، خلق علاقة إنسانية حميمة مع زبونها. مناداة الزبون باسمه عندما يصبح مشروبه جاهزًا، أفضل من مناداته برقم ما، وكأنهم أصدقاء من زمن بعيد، في مكان مألوف لهم جميعًا معتادون عليه. ستاربكس يمنحك ركنًا خاص بك بين الجماعة، طاولة بتصميم عصري، مدورة الشكل بالضرورة كي لا تشعر بالوحدة حتى لو أتيت بفردك، كنبة كبيرة، أو كرسي مريح لك من غير مدة محددة. أنت الآن اشتريت كوب قهوتك بما يقارب 4 إلى 7 دولار، فأهلًا وسهلًا بك في فضاء يجمع الكثير من الناس الذين يشبهونك في مكانكم الثالث. هذا المكان الذي ابتكره أهل ستاربكس، ضمن خطة جذب الزبائن، المكان الثالث هو ذلك المكان بين البيت والعمل، نجلب لك الراحة التي تشعر بها في بيتك، بالإضافة لخلق فضاء العمل المناسب لك، مكان دافئ وآمن يمكنك العمل فيه في أيّ وقت وفي أيّة فترة تختارها من النهار من دون إزعاج. يذكرنا إلى حدٍ ما بالمقهى الذي يجلس فيه أبطال مسلسل فريندز، مكان مريح يمكننا لقاء الأصدقاء فيه والتحدث بأي موضوع نريده ووقت ما نشاء، وهذه أهم معايير الاستقبال في عالم ستاربكس.

اقرأ/ي أيضًا: ماردٌ يسرق شبح ماركس: تدمير العالم من أجل إنقاذه

وفي حال طلبت شرابًا للطريق، فأنت الزبون المفضل، لأنك ستحمل ذلك الكوب الملصق عليه شعار الشركة إلى فضاءً أخر، هذا أكثر ما تفضله ستاربكس من شركائها المخلّصين، أن يحملوا أكوابًا باسمها، في خطة دعائية مجانية مشكورين عليها، عروسة البحر الخاصة بستاربكس محمولة في أيدي شباب راغبين باكتساب الاحترام المجتمعي، عبر نقل صورة إيجابية تعني بأنك دفعت توًا، بعض الدولارات من أجل القهوة فقط. والجدير بالقول إن ستاربكس تستخدم ما يعادل 4 مليارات من الأكواب التي تحمل علامتها سنويًّا، أكوابٌ تبدو من الورق، ولكنها عبارة عن طبقة رفيعة جدًا من البلاستيك غير قابل للتدوير. وهكذا تسير تلك العلامة في أكثر شوارع المدن ازدحامًا، ستاربكس فكرت في هذا الأمر، لذلك لا تفتتح الشركة متاجرَ لها في مكانٍ قصي أو بعيد، بل تعمّر تلك الإمبراطورية في عصب المدينة، وعند كل زاوية حيويّة منها.

إنه شكل من أشكال الرفاهية التي تقدمها الشركة، وتتيح للزبون أن يعبر عن شخصيته المرفهة أمام محيطه، وكأنه عندما دفع دولارات مقابل القهوة عرّف عن طبقته الاجتماعية وتوجهه بالإضافة لقوله بشكل ضمنيّ، "أنا يمكنني دفع ثمن هذه القهوة، مهما كان" إنه مصدر للفخر بين أبناء الطبقة الوسطى.

في أمريكا شرب كوب من القهوة عند متجر ستاربكس، أمام جهاز Mac أو تلفون من أيفون، يعتبر واحدة من صور الشخصية الناجحة في العالم، فالزبون لا يشتري قهوة فقط، بل يشتري من خلالها اعتراف اجتماعي به. يقول بروفيسور التاريخ في إحدى الجامعات الأمريكية براين سايمون، بعد عدة زيارات لمتاجر عديدة لستاربكس: "إن ستاربكس تستهدف، عن طيب خاطر، الزبون الثري، وخصوصًا الناس الذين يركبون سيارة BMW ويرتدون ملابس من ماركات راقية، وكأنه طريدة وقع في الفخ كونه صار تابعًا، ولكن مع مرور الوقت، صار الزبون المخلص ليس الزبون الثري، بل من يريد أن يصبح ثريًّا، يعرضون ذلك الأمر في الشوارع من خلال حملهم لكأس ستاربكس". وهكذا يصبح الزبون المنشغل أمام الشاشة يشرب قهوته غالية الثمن، في مكانه المريح، وحيدًا ومع الجماعة معًا، جزءًا من الديكور في فضاء متجر ستاربكس، وهذا جزء من تلك الفرادة التي يمنحها لك ستاربكس كهدية فأنت الدعاية والهدف معًا.

في أمريكا شرب كوب من القهوة في ستاربكس، أمام جهاز Mac أو تلفون من أيفون، يعتبر واحدة من صور الشخصية الناجحة في العالم

متجر واحد على الأقل يتم افتتاحه كل أسبوع في العالم، على الرغم من أن فكرة هذه المقاهي في الأصل جاءت للتمرد ضد ثقافة سائدة، ودعوة لابتكار عادة جديدة ومذاق جديد للقهوة في أمريكا، لتتحول بعد مرور الوقت إلى ثقافة سائدة مهيمنة، تقف ورائها ترسانة تسويقية هائلة، ويصحبها خطاب إنساني راقي، وسط عدد كبير من المريدين ومعايير أخلاقية عالية، تدافع من خلالها ستاربكس عن العدالة الاجتماعية والحرية الفردية، وتلتزم خلف اسمها بالدفاع عن المضطهدين والوقوف في وجه الخطابات العنصرية، وفي ذات الوقت، استطاعت أن تقنع الناس بأنها تصنع أفضل قهوة في العالم، وغدت بحسب تلك الكذبة واحدة من أكبر مصنعيّ القهوة ، بينما هي تشتري أفخر حبات البن بأرخص الأسعار، ثم كبسة زر واحدة والآلة ستصنع كل شيء. بالرغم من ذلك، يقضي العاملين في متاجر ستاربكس جلّ وقتهم في التنظيف، أمّا عن رواتب منتجيّ ومزارعيّ حبوب البن، فلا تتبع الشركة شروط عادلة مع المزارعون الذين يقفون وراء جودة قهوتها. تشتري حبوب البن من موطنها الأصلي، من جنوب المكسيك، مقاطعة شياباس، بسعرٍ بخس وتبيعها بسعرٍ مرتفع، من دون احترام لأخلاقيات وشروط التعاقد التي تضمن للمنتجين حقوقهم.

اقرأ/ي أيضًا: عن ثقافة الطعام والطهو الجيد... 3 وثائقيات على نتفليكس

إمبراطورية القهوة التي لا مفر منها، تجاوزت كونها منتجًا وصارت أشبه بالعقيدة يتبعها ملايين الشركاء المخلصيّن، حوّل الرئيس التنفيذي لستاربكس هوارد شولتز المشروب العادي إلى جرعة سحرية، واستطاع عبر ذلك السحر رسم صورة لنفسه فريدة وبعيدة عن النمطية، اجتماعية للغاية، مسؤولة مبادرة، وحاضرة بين الناس. من سياق تلك المسؤولية قد نجد مواقفه التقدمية ترسم أحلامًا وطموحات سياسية في المجتمع الأمريكي. من يعرف، ربما نجد ستاربكس لاحقًا في البيت الأبيض.

اقرأ/ي أيضًا:

3 إعلانات بحلّة أفلام قصيرة

6 أيقونات سينمائية خالدة