11-أبريل-2016

جدارية في مواجهة أحد المساجد في العراق عام 2000 (Getty)

في مقالٍ له بمجلة فورين أفيرز، يشرح المؤرخ اماتزيا بارام، مؤلف كتاب صدام حسين والإسلام الصادر عام 2014، كيف قام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، في مخالفةٍ لأيديولوجية حزب البعث العلمانية، باستخدام الإسلام لتعزيز سيطرة نظامه على الحكم، وكيف أدى ذلك إلى تمهيد الطريق للاقتتال الطائفي وظهور تنظيم الدولة الإسلامية اللذين أعقبا سقوط نظامه على يد الغزو الأمريكي عام 2003. فيما يلي نص المقال المنشور في الثامن من أبريل الجاري.

_____

في مقالهما بمجلة فورين أفيرز المنشور في كانون الثاني/يناير 2016 بعنوان "داعش صدام؟"، دفع صامويل هلفونت ومايكل بريل بأن سياسة الزعيم العراقي الأسبق صدام حسين البعثية لم تكن مسؤولة عن ظهور تنظيم داعش وقائده، أبو بكر البغدادي. في المقال، وصف هلفونت وبريل تصورًا تبنيته، في لقاءٍ تليفوني قصير مع جريدة بوليتيكو، بأنه "خطير"، حيث كتبا:

"قال اماتزيا بارام، الذي ألّف كتابًا عن صدام وعلاقته بالإسلام من عام 1968 إلى 2003، أن البغدادي هو "صنيعة صدام". هذه التصورات غير دقيقة ومضللة على نحوٍ خطير، كما توضح وثائق في السجلات العراقية وفي سجلات حزب البعث بمعهد هوفر. لم تجد دراستنا المتعمقة لتلك الوثائق أي أدلة على أن صدام أو نظامه البعثي أظهرا أي تعاطف مع الاتجاه الإسلامي أو السلفية أو الوهابية".

 وضعت "الحملة الإيمانية" نظام صدام تحت ضغط عبر فرض الدين على الحياة العامة، أراد صدام أن يخلق صورة أن كلا من الحزب والنظام قد أصبحا إسلاميين

يشير الكاتبان إلى المكتشفات في كتابي الجديد، صدام حسين والإسلام، والذي لم يذكر فيه البغدادي أو داعش. لكن كتابي ينص بوضوح على أن سياسات الأسلمة والسياسات الطائفية لصدام، على أهميتها، هي جزءٌ واحدٌ فقط من التطورات الأوسع التي أنتجت داعش. حسب حقائق "حملة صدام الإيمانية"، والتي استمرات فيما بين عامي 1993 و2003، أعتقد أنه كان "إسلاميًا". أعني بذلك أنه حقن النظام العراقي السياسي والتعليمي والثقافي والقانوني بجرعة مكثفة من الدين، المتطرف في جزءٍ منه. بذلك، كانت الحملة الإيمانية بالأساس حملة أسلمة، وقد ساهمت في التطرف الإسلامي لداعش.

للتوصل إلى نتيجة أن صدام لم يكن إسلاميًا، يوحي هيلفونت وبريل بأنهما قرآ بعناية جميع الصفحات البالغ عددها 11 مليونًا باللغة العربية من سجلات البعث بمعهد هوفر. يحتاج جهد من ذلك النوع إلى أن يكون الباحثان قد قضيا أيام عملهما بالكامل في قراءة الوثائق، منذ افتتاح الأرشيف في أبريل 2010 إلى وقتٍ ما في ديسمبر 2015 قبل أن ينشرا مقالهما مباشرةً. يستدعي هذا دراسة "شديدة الدقة" لما لا يقل عن 800 صفحة في الساعة لمدة 10 ساعات يوميًا. إذا كانا درسا فقط بعض الملفات، لأنه لا يوجد نظام فهرسة كامل، فإنهما لا يعلمان الكثير عما كان في بقية السجلات.

علاوةً على ذلك، أعطى هيلفونت وبريل أهمية مبالغًا فيها للسجلات وتجاهلا أيديولوجية حزب البعث العملياتية، وتحديدًا ممارسته السياسية الفعلية وكيف يصف ويشرح ويمجد في إعلامه؛ على سبيل المثال، في صحفه وكتبه المدرسية والتاريخية وفي التلفاز. بالتالي، حتى إذا كان هيلفونت وبريل فسرا بدقة ما كان يقال داخل الحزب نفسه، فإنهما قد أساءا فهم الوجه المعلن لمعتقدات النظام، أو ما قدمه على أنه معتقداته، وهي أدلة حيوية تدعم مجهودات صدام للأسلمة بين عامي 1993 و2003. وخلافًا لما يدفع به هيلفونت وبريل، قام نظام صدام بالفعل بتطبيق الشريعة في مناحي هامة من الحياة. حقيقة أن هذه السياسات كانت مناورة يائسة مصممة للفوز بدعمٍ شعبي لا تعني أنها لم يكن لها أي تأثير.

تلك النقطة محورية. أيًا ما كان قيادة البعث تقوله داخليًا أو حتى علنيًا ضد الاتجاه الإسلامي، فإن الأمر الذي كان له أكبر تأثير على السنة العراقيين هو سياسات صدام الفعلية وكيف وصلت إلى العامة. الهدف الرئيسي لحملة الأسلمة كان مواطني العراق العرب الذين تتراوح نسبتهم ما بين 80% و85% الذين لم يكونوا أعضاءً بحزب البعث والذين واجهوا سياسات الأسلمة الفعلية يوميًا: عقوبات وحشية جديدة، أسلمة مكثفة للتعليم، قيود على التسلية والكحول، إنفاق مبالغ خرافية من المال على بناء مساجد سنية باذخة بينما كان الشعب يحتاج إلى مساكن، التحول المزعوم لمؤسس الحزب المسيحي (ميشيل عفلق) إلى الإسلام بعد مماته، بل وأيضًا أسلمة العلم الوطني.

اقرأ/ي أيضًا: وثائق بنما تطال المغرب أيضًا

المثير للقلق بنفس القدر كان التنافر المعرفي الذي سببه التناقض بين علمانية الحزب داخليًا وإسلاميته من الخارج على الكثير من أعضاء حزب البعث المدنيين والعسكريين. بالنسبة لعددٍ كبير من أعضاء حزب البعث، بدا أن الحملة الإيمانية في التسعينيات دفعت تشككهم المسبق في البعثية إلى العدمية الكاملة، وهو ما تركهم معرضين عاطفيًا للتجنيد، في البداية من قِبل القاعدة ثم لاحقًا من قِبل داعش.

بعبارةٍ أخرى، وضعت الحملة الإيمانية نظام صدام تحت ضغطٍ شديد. عبر فرض الدين على الحياة العامة والسياسية، أراد صدام أن يخلق صورة أمام الرأي العام أن كلًا من الحزب والنظام قد أصبحا إسلاميين. أصبح العامة، الذين عانوا بسبب الحروب المدمرة والحصار الدولي، أكثر تدينًا. آملًا في زيادة شعبيته، استقل صدام القطار الإسلامي. لكن في نفس الوقت، ظل الكثير من أعضاء الحزب علمانيين. لضمان ولاء أعضاء الحزب، فإن محادثات الحزب الداخلية كان يراد لها أن تقودهم إلى الاعتقاد بأن أسس وأيديولوجية الحزب العلمانية تظل كما هي. رغم أن صدام أسلم نظامه، والذي كان حتى ذلك الحين أحد أكثر الأنظمة علمانية في العالم العربي، لم يكن يمكنه الاعتراف بذلك لقاعدته الحزبية لأن ذلك كان يمكن تفسيره على أنه استسلامٌ كامل للإسلام السياسي الإيراني والسعوديين والإخوان المسلمين.

بالإضافة إلى الإهانة، فإن الاعتراف علنًا بأنه استسلم لإسلامهم السياسي كان من الممكن أن يفتح الطريق للإسلاميين غير الموالين في العراق، حتى داخل الحزب (في المؤتمر التاسع لحزب البعث عام 1982، حذر الحزب صراحةً من أن بعض أعضائه يصبحون إسلاميين). بل إن صدام تحاشى لفظ "إسلامي" عبر تسمية مبادرته "الدعوة الإيمانية". كنتيجةٍ لذلك، حتى بينما كان يفرض نسخته من الإسلام السياسي، فقد كان يستنكر النسخة السعودية (الوهابية أو السلفية) من الإسلام.

حتى أثناء حملته الإيمانية في التسعينيات، كان صدام يقمع الإسلاميين الآخرين، ليس رفضا لاتجاههم، ولكنه قمع اعتاد عليه لكل من هو خارج سيطرته 

هيلفونت وبيريل محقّان في أنه، حتى أثناء حملته الإيمانية، كان صدام يقمع الإسلاميين الآخرين الذين اعتبرهم هو ونظامه "وهابيين" و"سلفيين". لكن ما يفوتهما هو أن ذلك القمع للإسلاميين الآخرين لم يكن رفضًا للاتجاه الإسلامي، لكنه مظهر آخر لإصراره الاعتيادي على سحق أي عنصر خارج سيطرته في المجتمع العراقي. تمامًا كما سحق الشيوعيين في السبعينيات بسبب انتقاد تفسيره للاشتراكية والإسلاميين بسبب اتهامه بالإلحاد، في التسعينيات، قمع صدام جميع الإسلاميين الذين رآهم خطرًا على نسخته من الإسلام السياسي. استخدم ابن صدام، عدي، والذي كان الشخص الوحيد الذي كان صدام يسمح له (على مضض) باتخاذ موقف مستقل علنًا، صحيفته بابل ليشكو باستمرار من أن النظام متسامحٌ للغاية بل وحامي للإسلاميين "الوهابيين"، حتى أنه اشتكى من أن بغداد تتحول إلى الرياض.

على حد معرفتي الآن، كان عدي يشير إلى الإسلاميين الموالين للنظام، والذين كان بعضهم أساتذة بجامعة بغداد، حيث كان زعيم داعش الذي نصّب نفسه خليفة يدرس هناك في ذلك الوقت. على نحوٍ مشابه، حذر الأخ غير الشقيق لصدام، برزان التكريتي، والذي تتوافر يومياته بأرشيف مركز سجلات أبحاث الصراع بجامعة الدفاع الوطني، صدام من أن الإسلاميين العراقيين سوف يدمرون حزب البعث في النهاية، وهو التحذير الذي تجاهله صدام. يتجاهل هيلفونت وبريل تلك السجلات.

بالطبع، كانت إسلامية صدام مختلفة عن تلك الخاصة بالوهابيين والسلفيين الآخرين. في كتابي أسجل أنه، في مناحٍ بعينها، قدمّ نسخة مخففة من الشريعة، وهو ما يتفق مع ادعاء هيلفونت وبريل بأن صدام طبّق نسخة "مخففة" من الإسلام السياسي. لكن في مناحٍ أخرى، كانت قوانين الشريعة التي طبقها صدام، إلى جانب تلك التي لا تقوم على الشريعة (والتي تم تقديمها على أنها جزء من الحملة الإيمانية)، أكثر شدة ووحشية من ممارسات كلٍ من الإخوان المسلمين والقاعدة، لكنها مشابهة لتلك الخاصة بداعش.

علاوةً على ذلك، يخطئ هيفونت وبريل بشدة عندما يدفعان بأنه "لا يوجد دلائل في السجلات البعثية على أن النظام طبق الشريعة في العراق". الصحافة البعثية هي سجلاتٌ أيضا. على سبيل المثال، طبّق صدام منذ عام 1994 سلسلة من القوانين أدخلت عناصر محورية من عقوبات الشريعة القانونية (الحدود) إلى قانون العقوبات العراقي الذي كان علمانيًا في السابق.

حسب القرار 59 الصادر في الرابع من حزيران/يونيو 1994، على سبيل المثال، يعاقب اللصوص (تم إضافة المتعاملين غير المرخص لهم بالعملة الأجنبية والمهربين ومرتكبي الجرائم المالية لاحقًا) ببتر اليد اليمنى، كما يعاقب معتادو الإجرام ببتر القدم اليسرى. مثل تلك الأعمال الوحشية لم تكن انحرافات قامت بها ميليشيات جامحة كما يدعى هيلفونت وبريل. كانت عمليات البتر، على سبيل المثال، تتم في مستشفياتٍ عامة من قِبل أطباء معتمدين. كانت المشاهد الدموية عادةً ما تبث على التلفاز. أي طبيب كان يرفض أمر البتر كان يعاقب بشدة. كون تلك القوانين كانت مستمدة من الشريعة كان واضحًا للجميع، لكن وتحسبًا لعدم ملاحظة البعض، أثنت الصحافة البعثية بشدة على النظام لتطبيقه الشريعة بتلك الطريقة. حددت مجموعة أخرى من القوانين خلال ذلك العهد الإعدام كعقوبةٍ للدعارة.

اقرأ/ي أيضًا: خلاف المرجعيات بين النجف وقم..العراق لمن؟

تم تقديم منع الاستهلاك العلني للكحوليات وإغلاق أغلب الحانات والملاهي الليلية والأسلمة الجزئية للنظامين البنكي والضريبي كجزءٍ من الشريعة. دورة إلزامية لدراسة القرآن لمدة عامين لقادة الحزب الكبار؛ اختبارات في الشريعة للتجار والقضاة المدنيين، والأسلمة العميقة، بنكهة سنية، للنظام التعليمي، بدايةً من الصف الأول، كل ذلك أيضًا كان جزءًا من الحملة الإيمانية.

ليس هناك كثيرٌ من الشك في أن مشروع أسلمة صدام، الحملة الإيمانية، على الأقل حتى أواخر التسعينيات، كان مناورةً سياسية شديدة اليأس

كذلك كانت هناك جهود صدام للحصول على شعبية في بقية العالم الإسلامي. في تموز/يوليو 1986، اجتمع صدام في لقاءٍ رفيع المستوى مع القيادات العليا التابعة له، حيث افتتح اللقاء بـ"اقتراح" محاولة تقارب مفتوحة مع جماعة الإخوان المسلمين القوية في مصر والسودان. كانت تلك مناورةً يائسة. بالنظر إليه الآن، يبدو ذلك الاجتماع كنذيرٍ بعملية الأسلمة الداخلية اليائسة بنفس القدر التي استمرت من عام 1993 إلى 2003.

يدّعي هيلفونت وبريل أن ذلك التقارب، إضافة إلى الحملة الإيمانية خلال التسعينيات، لم تمثلا انحرافًا عن موقف حزب البعث. لإثبات ذلك، هم يوردون على نحوٍ صحيح أنه في الاجتماع، أعطى عفلق موافقته على التقارب، لكنهما يتجاهلان كلًا من القيود المفروضة عليه (كانت معارضة "اقتراحات" صدام دائمًا خطيرة)، وانتقادات عفلق الذاتية لتمسح الحزب بالإسلام في أيامه الأولى. كان عفلق يشير إلى أنه لا ينبغي أن يكون هناك المزيد من الانحراف بعد ذلك التقارب. بالفعل، كمسيحي كان عفلق مهددا من قِبل أي أسلمة، وقد كانت "علمانية الدولة" عقيدة صارمة صاغها في الأربعينيات (من جانبه، أعلن صدام في العهد العلماني له في السبعينيات أن الشريعة لا تناسب الحياة العصرية).

علاوةً على ذلك، يتجاهل هيلفونت وبريل قياديًا مسيحيًا آخر، هو طارق عزيز، الذي حضر متأخرًا إلى الاجتماع. غضب عزيز من السياسة المقترحة ولم يدرك أنه يعارض "اقتراح" الرئيس. رأى عزيز أن مثل ذلك التقارب هو انحراف عن علمانية الحزب وخطر كبير على البعثية (سامح صدام عزيز في النهاية، ملتمسًا له العذر لأنه حضر متأخرًا، وهو ما يدل على أنه لم يعارض الرئيس عن عمد). يسقط هيلفونت وبريل ذلك الأمر من حساباتهما.

تأتي أدلة أخرى رئيسية على مسئولية صدام عن خلق داعش من تعامله مع الأكراد والشيعة حتى قبل الحملة الإيمانية. أكثر تلك الأدلة وضوحًا كان قمعه الوحشي لانتفاضاتهم في 1988 و1991، وهو ما يتجاهله هيلفونت وبريل أيضًا. مهدت أنهار الدم التي تركها صدام خلفه الطريق لعداء داعش الشديد تجاه الشيعة والأكراد. وعلى نحوٍ أشمل، أعد فشله في تجاوز الفجوة بين السنة والشيعة والأكراد والذي أسفر عن أزماتٍ طائفية وعرقية غير مسبوقة في العراق، المسرح لظهور داعش.

بالطبع ليس هناك كثيرٌ من الشك في أن مشروع أسلمة صدام، على الأقل حتى أواخر التسعينيات، كان مناورةً سياسية شديدة اليأس. في عام 1986، اعترف صدام بأنه للحصول على شعبية فإن هناك حاجة إلى القفز في قطارٍ يتحرك بالفعل من التدين المتنامي في العراق. رغم ذلك فإنه بين أوائل التسعينيات و2003 كانت سياسته المعلنة هي سياسة إسلامية على طريقته الخاصة. عبر الربط بين الإسلام والبريرية، عبر فرض تعليم إسلامي مكثف (بنكهةٍ سنية)، والذي كان غير مسبوق في العراق، وعبر القضاء عمليًا على أسس حزبه العلمانية، أعد صدام السنة العراقيين كي يكونوا عرضة للتأثر بالقاعدة عقب الغزو الأمريكي عام 2003، وفي نهاية الأمر، داعش.

من المؤكد أن صدام مسؤولٌ عن داعش، لكنه لا يتحمل المسؤولية وحده: حول آية الله روح الله الخميني صراعًا سياسيًا إلى صراعٍ طائفي. وعلى نحوٍ غير مقصود، كانت أخطاء ارتكبها الاحتلال الأمريكي والطريقة التي انسحبت بها الولايات المتحدة في النهاية من العراق أيضًا أسبابًا رئيسية. دعم الرئيس السوري بشار الأسد القاعدة في العراق، وهي النسخة المبكرة من داعش، وحولت قطاعات سنية وشيعية من المجتمع العراقي أزمة إلى حربٍ أهلية مأساوية مدمرة. لكن إسهام صدام في صناعة داعش كان حقيقيًا للغاية. كانت رؤية أوسع لنظامه وجهوده لتشكيل المجتمع العراقي لتكشف ذلك بوضوح.

اقرأ/ي أيضًا:

أوباما يضرب أسس كامب ديفيد

ماذا بعد هزيمة داعش