16-يونيو-2020

غرافيني في العاصمة البريطانية لندن (مايك كيمب/Getty)

"الطاعون"، "الحبّ في زمن الكوليرا"، "العمى"، وغيرها من العناوين الأدبية الأخرى التي عادت إلى الواجهة مُجدَّدًا بعد أزمة فيروس كورونا، باعتبارها أعمال أدبية تندرج ضمن ما يُعرف بـ "أدب الأوبئة" الذي أعاده الفيروس المُستجد للتداول. هل هناك ما يُمكن أن نضيفه إلى هذه القائمة؟ الجواب هو "المبعدون" (دار العربيّ، 2015) للكاتب البلقانيّ أوجنين سباهيتش

تجمع الظروف، العزلة والحجر، والأسئلة الكبرى التي تحاصر الفرد عند كلّ وباء جديد يُهدِّد وجوده رواية المبعدون مع حقل أدب الأوبئة

هل "المبعدون" تندرج أيضًا ضمن هذا الأدب؟ لا بدّ من السؤال هنا. ولا بدّ من الإجابة بـ: لا. فالحكاية تختلف وكذا المقاصد، ولكن هناك حتمًا ما يجمعها بهذا الأدب: الظروف، العزلة والحجر، والأسئلة الكبرى التي تحاصر الفرد عند كلّ وباء جديد يُهدِّد وجوده، أي أنّ ظروف الحياة داخل "المبعدون" تتشابه وتتطابق، غالبًا، مع ظروف الحياة في ظلّ كورونا وغيرها من الأوبئة، لا سيما لجهة التعامل مع الإنسان المُصاب كـ "وباء" بحدّ ذاته، وهو ما نراه في عمل سباهيتش، حيث يُغيِّب "الجذام" هوية المُصابين به، ويحذفها بالشكل الذي لا يعود هناك ما يُرى منه إلّا مرضه الذي يصير عاملًا وحيدًا في تشكيل هويته، وتحديد علاقة الآخرين به أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: عتبة الرواية.. كيف تفجرت حارة محفوظ وعزلة ماركيز؟

لماذا تستعاد "المبعدون" بعد خمس سنوات على صدور ترجمتها؟ يبدو العنوان كفيلًا بالإعفاء من الإجابة، وبأن يُجيب بذاته أيضًا، كما لو أنّه مكتوب ليدفع المتلقي إلى تأمّل حاله وما البشرية فيه أيضًا بصفتها مُبعدة، وإن من صنف آخر، في كوكب كاد أن يتحوّل إلى مُستعمرة كبيرة تنطوي على سلسلة مستعمرات تتفاوت أحجامها وأشكالها حتّى تصل إلى الغرفة، حيث يقبع الفرد في مواجهة أسئلة وجودية عديدة يختبرها ربما للمرّة الأولى، وتلحّ عليه باستمرار، مثل السؤال عن الغرق الجوهريّ بين الغريب والمألوف؟ أو ماذا بشأن الحدّ الفاصل بينهما؟ كيف يُمكن التمييز بينهما؟ ما العادي وما نقيضه؟ ما هو الواقعيّ؟ وكيف نلمس ما هو غير واقعيّ؟ 

ليست هذه الأسئلة وحدها ما يجول في بال الفرد، ولكنّها الأسئلة الأكثر تطابقًا مع أسئلة المجذومين القابعين داخل مستعمرة هي الأخيرة في القارّة الأوروبّية. هناك، في تلك البقعة المنسية في رومانيا الثائرة لتوّها على نيكولاي تشاوشيسكو، وبالقرب من مصنع أسمدة، حيث يصير الجسد البشريّ "جسدًا واحدًا، يعيش المرض، وينام فيه، ويموت به"؛ يفتح أوجنين سباهيتش عدسته على وسعها لمُعاينة أحوال بشر لن يكون بحاجة إلى عبارة أكثر من هذه لوصف ما يعيشونه: "كنّا بالنسبة إليهم رجس من عالم آخر".

يروي سباهيتش، على لسان بطل العمل، حكاية هؤلاء المُصابين بمرض غريب ومُرعب، دون الحاجة إلى التهويل والمبالغة. يكفي أن يجول البطل داخل المستعمرة، وبين بشرها، حتّى تصلنا الحكاية كاملة، وكذا المأساة التي انصرفوا عن التفكير بها حينما بدأ يلحّ عليهم السؤال عن الفرق بين المألوف: حياة سليمة بجسد مُعافى. ونقيضه: حياة فاسدة بجسد فاسد ومُتعفّن. 

عدا عن الحكاية، استعرض الكاتب داخل العمل معلوماته التاريخية والعلمية حول "الجذام"، مُحاولًا تمريرها بشكلٍ يُجرِّدها من قدرتها على بثّ الملل في نفس القارئ، دون أن يعني هذا تجريدها بشكلٍ كامل، إذ بدا واضحًا أنّ إيقاع السرد كان يتباطأ عند استعراضه لتلك المعلومات التي بدت ضرورية لإكمال المشهد. في المقابل، يستعرض سباهيتش الخرافات والأساطير التي نُسجت حول المرض، وتعاملت معه باعتباره لعنة تنهش الملعونين بها، أولئك الذين سُكنوا بأرواح شريرة وملعونة كانت مسؤولة عن التشوّهات والتعفّنات التي حلّت بأجسادهم التي غادرتها الروح الإلهية لشدّة ما ارتكبت، وفقًا لهذه الخرافات أيضًا، من ذنوب ومعاصي.

أوجنين سباهيتش (يوتيوب)

ربط الخرافات والأساطير، الدينية غالبًا، لهذا المرض بمعاصي والإنسان وذنوبه، وتصويره كعقاب/ غضب إلهيّ لكل من يّذنب، كان الخطوة الأولى في طريق ابتكار "المستعمرة"/الكرنتنيا من أجل عزل المجذومين في ظروف قاسية. فهي وكما يعرّفها بشرها، مقبرة للأحياء، ومكان يجعل من الإنسان، بغضّ النظر عن مكانته ما قبل المرض، أدنى وأقل من البشر المُعافين خارج أسوار المستعمرة.  

يستعرض أوجنين سباهيتش في روايته "المبعدون" الخرافات والأساطير التي نُسجت حول المرض، وتعاملت معه باعتباره لعنة تنهش الملعونين بها، أولئك الذين سُكنوا بأرواح شريرة وملعونة

بهذا الشكل، يكون الحجر/ العزل طردًا مباشرًا من المجتمع/ الحياة، وطردًا مبكّرًا من الفردوس المنتظر، فالمجذومين وفقًا لتعريفات تلك الأساطير، بشر خارج الرحمة الإلهية، منبوذين من قبل الربّ قبل عباده المُعافين، الأمر الذي يُساوي بين الحياة والموت الذي يفضّلونه على العيش كونه سيكتب الفصل الأخير من حياة أمضوها بصحبة الأرق والرغبة المُستحيلة بـ "الحكّ" الذي لا يتعدّى كونه عملية تقشير للجلد المُتقرّح، تبعثُ في النفس ألمًا لا يُطاق.

اقرأ/ي أيضًا: مقاومة العزل القسري.. يوليوس فوتشيك عندما صفق للموت من أجل الحياة

تصل القارئ هذه التفاصيل عبر الراوي الذي اختار له سباهيتش أن يبقى مجهولًا، يروي حكايات الآخرين أكثر مما يحكي عن نفسه، لا سيما شريكه في الغرفة، روبرت دونكان الذي يروي حكايته منذ أن كان ضابط استخبارات أمريكيّ يتجوّل في برلين الغربية مُحاولًا اقتفاء أثر العملاء الروس الذين سيوقعون به ويزجّوه في زنزانة متعفّنة، حيث سيلتقط العدوى هناك من مريض كان من الصعب عليه تبيّن ملامحه المخفية تحت كومة أغطية.

لـ"المبعدون" جوانبها السياسية أيضًا، تلك التي تُشير إليها عوامل عدّيدة، أبرزها أنّ أحداثها تدور في رومانيا التي تعيش لتوّها ثورة شعبية انتهت بالإطاحة بالرئيس نيكولاي تشاوشيسكو وإعدامه برفقة زوجته أيضًا، وتوجيه ضربة أخرى للكتلة السوفيتية الأخذة، نهاية الثمانينيات، بالتفكك والتلاشي. وسط كلّ هذه المُتغيّرات، كان الثابت الوحيد في المشهد هو المستعمرة وبشرها المجذومين والمنبوذين.

 

اقرأ/ي أيضًا: