05-نوفمبر-2015

يحب "جو" سيرته الطويلة

تدخل إلى الصالون متوقّعًا زحمة رجال ودُخان وأصوات مرتفعة. عوضًا عن ذلك تجد نفسك في مكان أقرب إلى نادٍ للرجال منه إلى صالون. يستقبلك شاب مبتسمٌ في العشرينيات من العمر، يسألك "بتحب قهوة؟" قبل أن يُرشدُك إلى مقعد جلديّ. تتراقص أمام ناظريك أنامل شباب يرتدون قمصانًا موحدة البياض كُتب عليها بأحرف أجنبيّة "جو عاصي". تبدأ البحث عنه من كرسيّ إلى آخر. فلكلّ شاب في الصالون كرسيّ يستقبل عليه زبائنه. لا تجده. تنظر إلى يمينك. ها هو... رجلٌ أسمر تزيّن وجهه لحية خفيفة، متوّسط القامة عريض الكتفين. يروح ويجيء في المكان بثقة اكتسبها مع كلّ تقدّم أحرزه في حياة مهنية اعتنقها صدفة عن طريق "الخطأ".

تولّى يوسف مهمة الحلاقة والإشراف على الصالون وكان يبيت ليلًا في غرفة في موقف

تراه يعمل بصمتٍ منهمكًا بمشروعٍ جديد تتبلور نهايته أمامك مع كلّ ضربة مقص أو تسريحة مشط. قد تظنّ أنّ الأمر ينتهي هُنا ولكن سرعان ما ترى شابًا يحمل منشفة صغيرة بيضاء تتصاعد منها رائحة عطرٍ ناعم ليضعها على وجه الزّبون الذي بانت على وجهه ملامح تعب. تتخمّر المنشفة على بشرة الرّجل وعندما تُسدلُ عنها، لاعبٌ أكثر حديّة يدخل إلى المعادلة. الموس. الآلة الحادّة التي بقيت على الرّغم من تكنولوجيا الشفرات ومكنات الحلاقة. يمررها جو على وجه الرّجل بمرونة حادّة. من شبه المستحيل ألّا يستوقفك المشهد فكيف يمكن لرجل أن يسلّم عنقه لرجلٍ آخر بكلّ ثقة، مغمضًا عينيه، مدركًا أنّ نظيره سيمرر قطعة الحديد هذه على عروقه واحدًا تلو الآخر.

في البدء كان يوسف

يوسف، الصبيّ في الثالثة عشرة من عمره كان عائدًا إلى بيته يرافقه دفتر علامات مدرسية يبشّر برسوب ونجاح في آن. في بيته في الجنوب، استقبلته أمّه بلهفة بينما تلقاها هو بتمرّد رافضًا الحياة المدرسية وما ستقدّمه له من مواد وفصول وحصص لم تعد تعني له شيئًا سوى خربشات حمراء اللون تحكم عليه بالفشل مرّة تلو الأخرى. بعد نقاش حاد خرج من المنزل ليستوقفه حلّاق الضيعة عارضًا عليه توصيلة لم يكن ليتوقّع أنها سترسم له مستقبلًا مهنيًّا. بعدما شعر السائق بضيقة يوسف عرض عليه العمل حلّاقًا في صالونه المتواضع في إحدى الضيع الجنوبية. سارع الصبي بالقبول وبدأ العمل في الصالون يحضّر القهوة والأرجيلة لربّ عمله الجديد. بقي على هذه الحال ستّة أشهر ينتظر زيارة أشقّائه ليتمرّن على حلاقة ذقونهم وتهذيب خصل شعرهم.

عندما شعر أنّه تمكّن أخيرًا من مهنة المقصّ والموس، انتقل للعمل في بيروت سنة 1994 عند أحد أقارب صاحب الصالون الذي كان يملك محلًّا في ضاحية بيروت الجنوبية حيث كان يتقاضى خمسة وثلاثين ألف ليرة فقط يصرف منها خمسة عشرة ألف ويعطي ما تبقى لعائلته متى زارها، أيّ في كلّ نهاية أسبوع. تولّى يوسف مهمة الحلاقة والإشراف على الصالون وكان يبيت ليلًا في غرفة في موقف مقابل مساعدة الناطور على ركن السيّارات. يضحك عندما يتذكّر الـ"تمشاية" التي كان يقوم بها لدخول الحمام الذي كان يبعد ما يقارب العشرين مترًا عن غرفته. كان يوسف "شايل المحل" فقرّر أن يطلب من ربّ العمل زيادة على راتبه المتواضع مقابل ما يقدّمه له من خدمات، لكنّ الأخير رفض وأصبح يوسف عاطلًا عن العمل رافضًا الظلم غير آبه أين سيذهب.

اقرأ/ي أيضًا:  ساري.. الراب ضدًّ الحصار

إنّ الصدف خير صديقٍ ليوسف، فخلال زيارته لأحد الأصدقاء علم أنّ حلّاقًا يملك صالونًا في منطقة الشيّاح ويبحث عن شاب لإدارته والعمل فيه. وكان لهذا الرجل صبيًا أراده أن يتعلّم المهنة فتمنّى عليه أن يتولّى هو هذه المهمة. في هذه الفترة انتقل للعيش مع جدّته في منطقة برج البراجنة وكان يذهب إلى عمله مشيًا لقلّة "السيولة". بقي على هذه الحال فترةً إلى أن زاره ضيف غير متوقع كما هي حال كلّ شيء في حياة عاصي. رجلٌ "ختيار" اسمه أبو جهاد، أعجبه أسلوب الشاب وسرعته في العمل لذلك لم يتردّد في تقديم عرض عمل ليوسف في صالونه الموجود في شارع "مارون مسك" الذي يتوسّط منطقة شعبيّة.

وكان أبو جهاد عسكريًا متقاعدًا لديه معارف عدّة في الجيش ومن زبائنه إميل لحود الذي كان قائدًا للجيش في ذلك الوقت، قبل أن يصير رئيسًا ويعترف بمهاراته الفذة في السباحة أيضًا. على الرّغم من تقاعده وكما هي حال كلّ من يعتنق الحياة العسكريّة، حافظ أبو جهاد على حسّه النظاميّ العسكريّ ومن أولى "أوامره القياديّة" أنّ دوام العمل في محلّه يبدأ من الثامنة صباحًا لينتهي عند الثامنة مساءً. وافق يوسف على شروط ربّ عمله الجديد وسرعان ما وجد نفسه يحلق لما يقارب الأربعين رجلًا في اليوم حتّى أصبح كرجلٍ آليّ يحملُ مشطًا في يد ويتسلّح بمقصّ بالأخرى.

كان أبو جهاد عسكريًا متقاعدًا لديه معارف عدّة في الجيش ومن زبائنه إميل لحود الذي كان قائدًا للجيش

هُنا كان الانتقال من مرحلة إلى أخرى. فالصبيّ الضائع الذي هرب من الدراسة ودخل في عالم حلاقة الرّجال لم يعد مجرّد هاوٍ أو صبيًّا يحضّر القهوة "للمعلّم" إنّما صار هو المعلّم. إنّ تحسّن أداء حلّاقنا الشاب أدّى إلى زيادة في راتبه الذي صار يناهز المئة وخمسين ألف ليرة في الأسبوع وذاع اسمه لكونه الحلّاق الأفضل والأعلى أجرًا في ضاحية بيروت الجنوبيّة، ما دفع أصحاب الصالونات إلى التزاحم لتوظيفه فتدفّقت العروض عليه.

لكن ابن صاحب الصالون لم يكن ليدع يوسف وشأنه، يتهنّى بنجاح ناله بجدارة، فراح يوسوس في أذن والده الذي ولخلفيّته العسكريّة كما ذكرنا سابقًا لم يكن يرى سوى الأبيض والأسود في الأمور، فسارع  وأوقف صاحبنا عن العمل من دون حتّى أن يعطيه فرصة للدفاع عن نفسه. بعد أن أصبح وللمرّة الثانية عاطلًا عن العمل، اتصل بقريب له اسمه أبو قاسم وطلب منه أن ينام الليلة في بيته الذي يقع في منطقة الضنّاوي بالقرب من سليم سلام. وفي صباح اليوم التالي سأله كيف يصل إلى شارع الحمرا، الشارع الذي لطالما سمع عنه ولم يزره قط، إذ طوال السنوات التي عمل فيها كان تنقلّه محدودًا في الضاحية الجنوبية ولم يكن يفارقها إلّا لزيارة أهله في الجنوب.

اقرأ/ي أيضًا: أم خليل القصّابة.. تتحدث عن "مهن القسوة"

كانت سنة 1995 تشارف على الانتهاء لتفسح مجالًا لرحلة جديدة في حياة صاحبنا. يتذكّر يوسف حتّى يومنا هذا، البنطال "العل موضة" الذي كان يرتديه عندما أنزله سائق الأجرة أمام ملك البطاطا في شارع الحمرا الرئيسيّ. راح يمشي ويمشي حتى عثر على شارع صغير دخله وكأنّ شيئًا ألهمه لدخوله. هناك وجد "مايا"، صالون حلاقة تجمّع أمامه شبّان لم يكن ليتوقّع أن يكبر معهم وبينهم. اختار أحدهم وسأله عن وضع صالونات الحلاقة في الحي وإن كان أحدها بحاجة إلى موظف. دلّه الأخير على محلّ يدعى صاحبه حسين.

طرق يوسف باب حسين تاركًا وراءه الخبرة التي جمعها، وتناسى لمسته التي تميّزه بين أنصاره وعرض خدماته على ربّ عمله المستقبليّ بصفة "شغّيل" يبحث عن عمل. إنّ يوسف لم يكن يومًا يبحث عن الماديّات إنّما يؤمن بثنائيّة العلاقات والزبائن التي من دونها لا نجاح ولا عمل مُربح لذلك اختار منطقة الحمرا لأنه وجد فيها فرصة لبناء قاعدة متينة من المعارف. إذًا بدأ يوسف العمل عند حسين الذي كان زبونه الأوّل واتفق معه على راتب لا يتعدّى الأربع مئة ألف ليرة لبنانية في الشهر، المبلغ الذي يقارب نصف ما كان يحصّله عند أبو جهاد. لكنّه وعلى الرّغم من راتبه المتواضع استطاع وكما كان يحلم أن يبني هذه القاعدة من الزبائن منها رجالات لها مراكز مهمّة في الجيش الأمر الذي سهّل خدمته العسكريّة الإجبارية سنة 1999 حيث بدأها كعامل هاتف يحوّل الاتصالات في أمن الدولة ليصبح الحلّاق المعتمد من أصحاب الرّتب العالية ما ميّزه وجعله محطّ غيرة وهيبة في آن لقربه من المسؤولين.

عندما أنهى خدمته العسكريّة عاد للعمل عند حسين ومع حلول سنة 2000 لم يكن يوسف يملك المال لكنّه جمع حوالى مئتي زبون، أوفياء له، لا يدعون أحدًا غيره يهتمّ بشعرهم وذقونهم وهذا الأمر لوحده ممكن أن يُنتج له مدخولًا عظيمًا أينما ذهب.

 كان أوّل من لاحظ نجاح يوسف أحد زبائنه ويُدعى ماهر فعرض عليه أن يفتحا معًا صالونًا في شارع الحمرا وهذا ما حصل تمامًا وأطلقا عليه اسم "كول كاتس" ليكون ثورة في عالم الصالونات من ناحية الإضاءة والكراسي الحديثة والرفاهية. لم يكُن شريك يوسف حلّاقًا إنّما تاجرًا. وككلّ التجّار سيطر عليه طمعه وقّرر سحب الشراكة من عاصي ليُرجعه موظّفًا من جديد مع راتب مُحدّد. وبما أنّه هو صاحب رأس المال وبما أنّ يوسف لم يكّن يدخر قرشًا استغلّ الظرف ورفع عليه دعوة اختلاس فما كنا من يوسف إلا أن رضخ واستسلم لربّ المال. والآن، في صالونه، عندما يُسأل لماذا "جو" لا "يوسف" يُجيبك بابتسامة: في البدء كان يوسف.

 

اقرأ/ي أيضًا

  المعلم جبران.. رسول الحياة في البترون

مارون العواد يدندن وحيدًا

دلالات: