19-أغسطس-2015

جبران زكور مع عربته الشهير (الترا صوت)

كان المعلم جبران، كما يناديه محبوه، يركن عربته في إحدى زوايا الرصيف في سوق البترون شمال لبنان. يخرق بصوته نمطية الحركة في الشوارع. اعتاد المارون على سماعه دائمًا ينادي لبيع اللوز والذرة، فحفظوا هذا الصوت وأحبّوه.

تعتبر هذه البسطة المورد الوحيد لعيشه هو وحفيدته اليتيمة، فالعم جبران فقد عائلة ابنه جرّاء حادث سير، وبقيت الطفلة التي يعمل الرجل جاهدًا في سبيل تأمين الرعاية الطبية والمعيشية  لها. كل شيء كان على ما يرام، العمل رغم صعوبته، والناس الطيبون الذين يحبّون الرجل الطيب. فجأة أزالت البلدية عربة جبران من تلك الزاوية الصغيرة بسبب الشكاوى التي رفعها بعض من أهالي ذاك الحي من أصحاب مؤسسات تجارية وغيرها. ليس جميع الناس طيبين. هكذا، منع الرجل من مواصلة عمله.

يسكن جبران في غرفة خشبية غير مطابقة لأية معايير إنسانية

يسكن جبران زكور في غرفة خشبية غير مطابقة لأية معايير إنسانية. المعنى الحقيقي لكلمة فقر يمكن اكتشافه في تلك الغرفة. رغم كل المآسي، لا ينكر الرجل فضل "البلدية" ورئيسها عليه، فقد ساعدته مرارًا كما يقول. لكن ثمة ما حدث. في غيابه، افتقد الحي للحياة خصوصًا في الليل، حيث كان الرجل يضيء الزاوية قرب عربته ليبيع الذرة. لقد أصبح جزءًا من الحياة اليومية لبعض الأشخاص، ومنهم من كان يقصده فقط لإلقاء السلام عليه. يعد الرجل ككثيرين من الفقراء الذين يزعجون، لأسباب مجهولة، أولئك الذين يجلسون وراء مكاتبهم وفي محالهم الفخمة. يفسد الفقراء برستيج الأغنياء؟ ربما.

كان الرجل يزيل القشر عن الذرة وهو يخبرك ما توافر في جعبته من أخبار اليوم، يحدثك، حتى أنك لو قصدته بخدمة خارجة عن نطاق عمله، كان يسعى جاهدًا لمساعدتك بما توافّر لديه من إمكانات. رائحة ذرة المعلم جبران تشدك إلى تلك الزاوية المطلة على السوق القديم، وتنذرك أن الحياة في هذه المدينة مازالت موجودة. الفقراء هم الذين يصنعون المدن.

بعد توقفه عن البيع لفترة وجيزة، عاد الرجل بعربة تعجُّ بألوان الفاكهة، كانت قد قدمتها له البلدية مع قطعة من الأرض كهبة ليركنها هناك. البلدية ليست سيئة إذًا، المشكلة ليست معها. بعودة جبران، عادة الحياة إلى السوق، عاد الرجل باندفاع لاستئناف عمله الذي طالما أحب. عاد بعربة "مطابقة للموصفات"، ويبدو على الرجل انه ما زال متمسكًا بالحياة، رغم مروره بفترةٍ قاسية. على عربته الجديدة كتب باللون الأسود العريض "أنا لبناني وشايف حالي وبوطني رح أبقى". وهي جملة تدل بوضوح على عمق الأزمة بين اللبنانيين ووطنهم.

 الفقراء هم الذين يصنعون المدن

يذكر أن الطرقات اللبنانية تعج بعشرات العربات، لبائعين لبنانيين ومن جنسيات أخرى، ممن لا يلتفت إليهم أحد، بل على العكس تمامًا، تطالهم موجات عنصرية، وأحيانًا لا يتردد عناصر قوى الأمن الداخلي في إهانتهم، إلى حد رمي بضاعتهم على الطريق، والدوس عليها بأقدامهم. ورغم الاعتراضات المدنية المتكررة على تصرفات رجال الأمن، إلا أن لا تغير في سلوك رجال الأمن اللبنانيين مع الباعة المتجولين، وهم عرضة في أي لحظة لهجوم "أمني". جبران زكور هو واحد منهم، لكنه نجا نظرًا للطابع الأهلي الذي يسيطر على مدينة البترون، لكن الأمور في بيروت، قد تكون مختلفة تمامًا.