06-أبريل-2022
تمثال لأقزام ترمز لمقاومة النظام الشيوعي في مدينة فروتسواف في بولندا (Getty)

أقزام ترمز لمقاومة النظام الشيوعي في مدينة فروتسواف في بولندا (Getty)

كثيرًا ما يقصد الواحد منا مكانًا للترويح عن النفس أو لعقد لقاءٍ أو لقضاء حاجةٍ، وإذ به أو بنا نرى أنفسنا في مكانٍ آخر غير الذي قصدناه، وذلك بعد أن جاء مَن أخرجنا عن السكة التي كنا نمشي عليها، أو يحدث أن نختار دربًا لنسير عليه نحو هدفٍ ما أو لنتجه لنقطة ما، وإذ بشيءٍ ما يغير وجهتنا فنذهب باتجاهٍ آخر، وحالنا هاهنا كحال الكثير من الناس الذين غيّر طارئ ما مسارهم كما غيّرت الرياح من قبلُ اتجاه البواخر، وكما غيّرت الأحداث وجهة المؤسسات أو الدول والشعوب، وفي هذا الصدد لن نتطرق إلى الشرارات الصغيرة التي توسعت ومن ثم غيرت مسار الدول، ولا إلى الكنوز المدفونة في القرب بينما كنا طوال الوقت ننقب عنها بعيدًا كما أشار إلى ذلك الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو، ومن قبله الكاتب التشيكي الألماني فرانز كافكا، إنما سنتحدث عن الأشياء التي تنسينا ما كنا مشغولين بالعثور عليه، أو الأشخاص الذين يأخذوننا إلى دارٍ بينما كنا بصدد زيارة دارٍ آخر.

بما أن أسلوب الحياة لدى أي فرد يختلف عما هو عليه لدى غيره، فهذا الأمر ينسحب حتى على طريقة تعاطينا مع الأوعية المعرفية، فتختلف طريقة قراءة المكتوب من شخص لآخر

وفي هذا الإطار تذكرنا المرويات الشفهية عن مطرب الملاحم الفلكلورية الكردية عبد الرحمن عمر (بافى صلاح) أنه كان في إحدى المرات خارجًا من بيته في مدينة حلب لجلب الحليب لأطفاله، وبما أن الراحل أبو صلاح كان إلى جانب عمله اليومي المتعلق بقوت يومه وفنه يمارس العمل السياسي السري، فإذ به يلتقي في الطريق برهطٍ من رفاق الحزب، وبعد تبادل أطراف الحديث معهم وعما آل إليه وضع الحزب الآيل للانشقاق آنذاك، فقالوا له اليوم ثمة اجتماع مهم للبحث في هذا الشأن، وإذا ما كنتَ جاهزًا انضم إلينا لنعمل جهدنا الأخير في عدم السماح بانشقاق الحزب، ولأن الموضوع كان محط اهتمامهم وكان جديًا فوق العادة، فنسي أبو صلاح من الحماس السياسي ما كان قد ذهب لأجله وانطلق مع رفاقه، فحضر مؤتمر الحزب وعاد إلى البيت بعد ثلاثة أيام، وعند العودة للمنزل قالت له زوجته المرحومة صباح عمر أين كنت لقد انشغل بالنا عليك؟ قال أبو صلاح: كان هناك اجتماع حزبي مهم لذا ذهبت برفقة رفاقي للاجتماع، فقالت زوجته وهل جلبت معك الحليب؟ رد أبو صلاح، أي حليب؟ وحيث إنه كان قد نسي ما خرج لأجله، وقال لها: هل في اجتماعات الحزب يوزعون الحليب؟ فردت زوجته أنا أتكلم عما كان قبل الاجتماع فهل تتذكر لماذا خرجت من البيت يومها؟ فعندها تذكر أبو صلاح بأنه كان قد خرج من البيت يومها للبحث عن الحليب حتى يجلبه لأطفاله، إلاّ أنه التقى في طريقه بمَن جعله ينسى من الحماسة الطفلَ والحليب!

الصدفة تغيّر وجهتنا

بما أن أسلوب الحياة لدى أي فرد يختلف عما هو عليه لدى غيره، فهذا الأمر ينسحب حتى على طريقة تعاطينا مع الأوعية المعرفية، وحيث إن طريقة قراءة المكتوب تختلف من شخص لآخر، وما من درب معين على كل قارئ أن يمضي فيه، إذ ثمة من يقرأ كتابًا بأكمله ولا يرى فيه إلاّ بضعة أسطر تستدعي الوقوف عندها وإطلاق مركبة التخيلات أو السرحان خارج المكتوب الذي أمامه إلى حين، وثمة من ينظر لكل المكتوب كقيمة معرفية، ويُعتقد بأن هكذا أناس من الصعب عليهم العثور على ضالتهم في السِّفر الذي بين يديهم باعتبار أنهم يرون المكتوب كله ذا قيمة عالية، ومنهم من يقرأ في المرة الأولى فيعثر على بعض ما كان بحاجته فيلتقطه ويحمله معه حينًا من الوقت إلى أن تأتي لقية أخرى وتحل مكان الأولى، وهذا النموذج من القراء لا يملون من العثور على ما يلبي رغباتهم مرة تلو الأخرى، إذ قد يرون في المرة الثانية ما لم يخطر على بالهم في المرة الأولى، وهذا لا شك متعلق بوعيهم الذاتي وبالحالة التي يكون الواحد منهم فيها.

وإذا كانت الصدفة مرارًا ما قادت الكاتب ألبرتو مانغويل إلى الجملة التي يريدها بالضبط ويبحث عنها منذ أزمان بقوله "في كل مرة كنت أمد يدي لألتقط كتابًا، كنت أعرف أنّي سأكتشف سطرًا مختبئًا يطل من دفتي الكتاب، سطرًا كان ينتظرني منذ قرون". فمثلي مثل غيري فإن البحث عن كتب معينة كان يقودني إلى كتب جديدة لا علاقة لها ببحثي ولا تمت عناوينها بصلة لما أبحث عنه، إلاّ أنه كثيرًا ما كان يجعلني كالباحث عن الآثار الذي كل همه أن يعثر على قطعة ذهبية ما فلا يجد ضالته، ولكنه كان يكافأ بما لا يقل ثراء وقيمة عما كان بباله.

ومنها على سبيل الذكر ففي إحدى المرات التي كنتُ أبحث فيها عن ديوانٍ للشاعر اللبناني بسام حجار في مكتبةٍ بحي البربير في بيروت، وإذ بي أعثر على معجم الخرافات والمعتقدات الشعبية الأوروبية للكاتب بيار كانافاجيو وجئت به يومها وصرت أقلب الخرافات لدى شعوب تلك البلاد في ذلك اليوم بدلًا من قراءة أشعار المرحوم بسام حجار، ومما لصق بذهني من ذلك الكتاب "من كان حائرًا وجب عليه أن يفتح الإنجيل بلا تبصر، ثم يضع إصبعه، وعيناه مغمضتان، على النص، فإذا فتح عينيه أشارت العبارة التي حددها إصبعه إلى السلوك الذي ينبغي له أن يسلكه"، فاستوقفتني هذه العبارة بكوني كنت قبلها بعامين قد بدأت بقراءة بعض فصول الكتاب المقدس، وبما أنني ابن قرية في الأصل والماشية كانت جزء من حياتنا البيئية، وخاصة البغال، لذا التصقت بذهني عبارة أخرى من يومها ألا وهي: "إن البغل حيوان عقيم ولأنه عقيم فينتقل عقمه إلى كل من ركبه بلا سرج".

الكثير من الكرد قابلون للتذويب من تلقاء أنفسهم، وليس بفعل الحرارة الشوفينية العالية لدى سلطات الدول التي يعيشون في ظلالها

أما بخصوص الثالولة التي ظهرت في المنطقة السفلى من ظهري بعد الأربعين، فجاء في ذلك المعجم ما كان صعبًا الحصول عليه لأتخلص من تلك الزائدة، وحيث ورد في الكتاب المذكور "إذا أراد الشخص التخلص من الأورام الذئبة، والثآليل، فركناها بثياب أحد الجلادين"، ولكن بالرغم من أني محاط بالعشرات ممن كانوا ضحايا الجلادين، إلاّ أني لم أحظَ بلقاء ولو جلادٍ واحد إلى تاريخ اليوم كي أستفيد مما يغطي به جلده السميك.

وفي الإطار ذاته ففي يومٍ وعام آخر كنت في منطقة حلبوني بالعاصمة دمشق أبحث عن كتاب مترجم، فقادتني يداي إلى قاموس الكائنات الخرافية في العالم للكاتب شوقي عبدالحكيم، وهو من إصدارات المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وتعرفنا في ذلك القاموس وقتها على العفريت والعنقاء والرُّخ ذلك الطائر الخرافي الضخم لحد الرعب حيث أن بمقدوره أن يحمل فيلًا بمخالبه وينقله من مكان لآخر، وكذلك الأمر نسور لقمان التي ارتبطت حياته بحياتهما وكيف ماتت النسور الثمانية واحدًا تلو الآخر وبقي نسر واحد، وبقي لقمان حتى وافته المنية مع أنه ليس مذكور إن كان النسر قد مات قبله أم هو مات قبل النسر.

بينما في تركيا ففي بداية عام 2022 كنت أبحث عن كتابٍ للباحث والكاتب محمد أونجو، وإذ بي أتعثر بكتاب لم يخطر على بالي قط أن أعثر عليه أو أجده، أو أجد كتابًا خاصًا عن ذلك الموضوع، ألا وهو موضوع التذويب القومي أو الانصهار، وهو للكاتب باهوز باران (Bahoz Baran)، تحت عنوان "قاموس الانصهار" (Ferhenga Bişaftinê)، عمومًا أربكني الكتاب الأخير رغم أني فرحت به بدايةً، وذلك لأني كنتُ من قبل أكتب بعض المنثورات الخاصة بالانصهار في ملف واحد، ملف خاص بلزوجة المنصهر ورخاوة المذاب ودونيته، وحيث بدا لي أن القاموس الفكري الاجتماعي الأخير قد يكون له تبعات سلبية على ما بدأت به بخصوص الكرد القابلين للتذويب والمنصهرين من تلقاء أنفسهم، وليس بفعل الحرارة الشوفينية العالية لدى سلطات الدول التي يعيشون في ظلالها، فالقاموس الذي تفاجأت به يتحدث بإسهاب في مئات المقاطع واللقطات الكتابية عن مختلف الجوانب لتلك الظاهرة المقيتة بين كرد تركيا الذين ذاب منهم من تلقاء أنفسهم أضعاف أضعاف ما قامت به الدولة بالغصب والإكراه، وحيث إن هذا القاموس الفكري أحبطني مثل ما أفادني؛ أفادني لأنه بإمكاني الاستفادة منه إن أردت الوقوف على الجوانب التي لم أتطرق إليها، ومن جهة أخرى أضرني لأن من عادتي إن عرفت أن أحدهم يعمل على ملف أو يشتغل في مجال محدَّد أترك ذلك المجال له وأختار زاوية أخرى للعمل عليها، وذلك حتى لا يكون هناك أي تقاطع بين ما أعمل عليه وبين مُنتج ذلك الشخص سواء كان من الأغراب أم من المعارف.