28-يناير-2021

الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل (Getty)

يُقيم الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل (1948) في مكتباتٍ تبدو لا نهائية، سعى دائمًا إلى إيجاد حيزٍ زمني لها، يتيح له التفاعل معها واستحضارها عند غيابها المادي. ولعل هذا المسعى أخذ منحىً أكثر أهمية بعد انتقاله القسري من فرنسا إلى الولايات المتحدة، بسبب تغيير قوانين الهجرة.

يشارك ألبرتو مانغويل قراء كتابه "شخصيات مذهلة من عالم الأدب" تأملاته وانطباعاته حول شخصياتٍ أدبية مختلفة

حينها، تحول غياب المكتبة وفراغ رفوفها من الكتب فجأة، من مجرد هاجسٍ إلى حقيقة أدركها مانغويل بينما يحاول توضيب ما يقارب 35 ألف كتابٍ، موزع على رفوف مكتبةٍ ألِفَها، بهدف نقلها إلى أخرى لا يضمن مصيرها، الأمر الذي استدعى عنده ضرورة إيجاد حيزٍ زمني لها، يكون أقرب إلى ذاكرةٍ متوهجة ويقظة، يكرس عبرها حضور المكتبة للتعامل مع غيابها المادي.

اقرأ/ي أيضًا: أفكار ألبيرتو مانغويل أو ذلك الفضولي في زي الحكاء

يمكن القول إن هذا الهاجس موجود عنده، على ما يبدو، منذ أول رفٍّ قام بتأسيسه، وأن ما فعلته حادثة انتقاله القسري هو أنها ضاعفت من حضوره وأهميته في حياته. هذا على الأقل ما تخبرنا به كتبه السابقة، التي يمكن فهمها والتعامل معها انطلاقًا من الهاجس أعلاه، باعتبارها حيزًا زمنيًا أو ذاكرة لمكتبته والفعل الذي تستدعيه: القراءة.

ولعل هذا ما يفسر شعور القارئ بالآلفة عند قراءته عملًا جديدًا لمانغويل، تمامًا كما لو أن مضمونه سبق وأن مر عليه، الأمر الذي يشير إلى سهولة توقعه لأجواء كتبه قبل قراءتها، إذ إن أغلب ما قرأه صاحب "الفضول"، يظهر في كتبه بأشكالٍ مختلفة، وضمن سياقاتٍ زمنية ومكانية متعددة.

"شخصيات مذهلة من عالم الأدب" (دار الساقي، ترجمة مالك سلمان، 2019)، يأخذ مسافة مما قدمه ألبرتو مانغويل خلال السنوات الماضية. صحيح أنه كتاب عن القراءة أيضًا، وأن الأخيرة هي ثيمته الرئيسية، شأنه شأن ما سبقه، ولكن ما يختلف هنا هو طريقة توظيفه لهذا الفعل وتعاطيه معه، فهو لا يتحدث عن مكتبته، ولا يأتي على ذكر أي تفاصيل حول القراءة وذاكرتها وتاريخها وفنونها أيضًا، وإنما يخطو خُطى سلفه ومعلمه بورخيس الذي قدّم كتابًا حول المخلوقات العجيبة والوهمية، فيقدّم بدوره كتابًا حول الشخصيات الأدبية المذهلة، مع وجود فوارق واختلافاتٍ هائلة بين العملين بطبيعة الحال.

يُقدّم ألبرتو مانغويل قراءة جديدة لشخصية سيدي حميد بن جلي الذي ينسب إليه ثربانتس روايته الشهيرة "دون كيخوته"

لا يُقدّم مؤلف "ذاكرة القراءة" في كتابه قاموسًا يجمع الشخصيات المذهلة في عالم الأدب، كما يشير العنوان، وهنا لا بد من الإشارة إلى ضعفه وعدم دقته لأسبابٍ مختلفة، منها أن الشخصيات الحاضرة في الكتاب لا تنتمي جميعها إلى عالم الأدب، فهناك شخصيات أسطورية وأخرى قادمة من النصوص الدينية على اختلافها، بالإضافة إلى أن مانغويل لا يُقدّم قاموسًا كما أسلفنا، ولا يأخذ على عاتقه وصف هذه الشخصيات، فما يفعله هو مشاركة القارئ تأملاته وانطباعاته حولها، عبر إعادة تشكيلها بناءً على تأملاته نفسها، واستحضارها خارج حدود المخيلة، وتقديمها بصفتها عوالم قائمة بذاتها.  

اقرأ/ي أيضًا: ألبرتو مانغويل.. في مكتبة بإيقاعات مجنونة

يمكن العثور على وصفٍ لما يفعله الكاتب الأرجنتيني في تقديمه للكتاب، إذ يشير إلى أن أصل مصطلح "Fiction" في اللغة الإنجليزية، وبحسب المعاجم المتخصصة في أصول الكلمات وتاريخها، مشتق من اسم القول اللاتيني "Fingerer" الذي يعني في الأصل ""ُعجن أو يُشكل من الصلصال أو الطين".

هذا بالضبط ما يفعله ألبرتو مانغويل في كتابه، حيث يعيد تشكيل شخصيات مرت عليه أثناء القراءة لا عبر الطين أو الصلصال، وإنما من خلال انطباعاته حولها، بما هي نتيجة للقراءات المتعددة التي تضيء على جوانب معينة لا يمكن ملاحظتها عند القراءة الأولى، بالإضافة إلى تقاطع كتابٍ ما آخر سبقه، الأمر الذي ينتج عنه معانٍ وتأويلاتٍ جديدة لا للنص فحسب، وإنما لشخصياته أيضًا.

قراءة الكتاب أكثر من مرة، أو القراءات المتعددة التي تؤكد فكرة أن القارئ لا يدخل لكتاب نفسه مرتين، بالإضافة إلى تقاطع مضمون كتابٍ مع آخر، يفسح المجال لما هو خارج حدود عالم الأدب لتشارك في عملية إنتاج المعاني. فعبر تداخل التاريخ مع الأدب، على سبيل المثال، يُقدّم مانغويل قراءة جديدة لشخصية سيدي حميد بن جلي، الذي يَنسِبُ إليه ثربانتس روايته الشهيرة "دون كيخوته"، إذ يحاول فهم هذه الشخصية عبر عقد مقارنةٍ بين مضمون "دون كيخوته" وسلوك شخصياتها، وتاريخ الأندلس بعد سقوطها وتهجير المسلمين منها، وتحول من بقي منهم، بعد تغيير ديانتهم، إلى فئة منبوذة داخل المجتمع.

لماذا يعترف كاتب إسباني بأبوة شخص آخر لكتابه؟ ولماذا يختار شخصًا ينتمي إلى جماعةٍ منبوذة ومنفية من أرضه؟ يتساءل صاحب "المكتبة في الليل" دون أن يُقدّم أي إجاباتٍ على سؤاله. ولكنه، في المقابل، يحاول عقد مقارنةٍ بين الالتباس الذي ينطوي عليه السؤال، والالتباسات الحاضرة في رواية "دون كيخوته"، وتلك القائمة في عالم سيدي حميد الذي يتخيله مانغويل منبوذًا ومنفيًا، شأنه شأن أبناء جلدته.

يسعى ألبرتو مانغويل إلى إيجاد حيزٍ زمني لمكتباته يتيح له التفاعل معها واستحضارها عند غيابها المادي

فالرواية تنطوي على شيءٍ من التشظي الذي يتقاطع مع تشظي وشتات سيدي حميد نفسه. وبحسب مانغويل، من الضروري أن يكون المؤلف الذي يُقدّم إلينا هذا الواقع، متشظيًا ومنفيًا. كما أنه من الضروري أيضًا أن يكون المؤلف الذي يبتكر شخصية تحاول فهم ما يجري في المجتمع الذي ينبذها، كما هو حال دون كيخوته، أن يكون بدوره منبوذًا بطريقةٍ أو بأخرى. وبالتالي، هل يمكن القول إن ما دفع ثربانتس إلى نسب روايته إلى شخصية عربية مسلمة ومنفية، هو اللعب الأدبي؟ أم أن الأمر إشارة إلى استحالة اسكات الثقافة المنبوذة في أي مجتمعٍ كان؟ يترك مانغويل السؤال مفتوحًا.

اقرأ/ي أيضًا: ألبرتو مانغويل في عالم مسحور

إلى جانب سيدي حميد، يشارك مانغويل القارئ تأملاته حول شخصيات أخرى، مثل مسيو بوفاري، الشخصية الأكثر واقعية والأقل تهورًا في رواية "مدام بوفاري"، والتي لا يتماهى معها فلوبير إطلاقًا، بحسب تعبير مانغويل الذي يرى أنه، رغم ذلك، شخصية ضرورية جدًا، إذ إن الرواية تبدأ وتنتهي به وليس بإيما التي لا يكون لها أي معنى من دونه، ولن تكون بطلة رومانسية، تعرف العواطف ولذة النشوة، دون وجوده. وبجملةٍ أخرى، إن مسيو بوفاري موجود لكي تتمكن مدام بوفاري من خلق مصيرها المأساوي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

السجن ودكتاتوريات القرن العشرين.. شهادات من العالم

في أي زمن نعيش؟