01-مارس-2022

المفكرة الألمانية حنة أرندت (1906 – 1975)

في مرحلة ما من مراحل حياتها، خلال سنواتها الأولى في الولايات المتحدة الأمريكية تحديدًا، نشرت حنة أرندت (1906 – 1975) عددًا من الدراسات الأدبية ومراجعات الكتب في صحف ومجلات مختلفة. غير أن هذا النوع من الكتابة، وللمفارقة، لم يتعدَ مجرد محاولة لتوفير دخلٍ إضافي، وهو ما يفسّر عدم اهتمامها بجمعها ونشرها في كتاب، رغم أن بعضها يتجاوز المقالة إلى الدراسة النقدية.

لا تُعيد حنة أرندت في دراستها تقييم تجربة كافكا، بقدر ما تقدّم قراءة نقدية تتصدى للتفسيرات المغلوطة التي ظهرت حولها

"إضاءات لفهم الواقع" (دار الساقي، 2021/ ترجمة إبراهيم العريس) الذي يضم مقالات ودراسات جمعت بعد وفاة أرندت، يقدّم عينة معبرة عنها بصفتها ناقدة أدبية هذه المرة. صحيح أن الكتاب لا يضم سوى بضع مقالات/ دراسات أدبية مقابل عددٍ كبير من الدراسات السياسية والفلسفية، إلا أنها تكفي للإضاءة على هذا الجانب الذي يتجلى أكثر ما يتجلى في دراستها "فرانز كافكا: إعادة تقييم لمناسبة الذكرى العشرين لرحيله".

اقرأ/ي أيضًا: إيفان كليما: الهاوية التي سقط فيها كافكا تشبه الهاوية التي ننحدر فيها

لا تُعيد حنة أرندت في دراستها تقييم تجربة كافكا، بقدر ما تقدّم قراءة نقدية تتصدى للتفسيرات المغلوطة التي ظهرت حولها في عشرينيات وثلاثينيات القرن الفائت، لا سيما التفسيرات التي ترى أن تجربته تنطوي على حداثة غير مسبوقة في كثافتها والتباسها، وهو ما تنفيه أرندت التي ترى أن كافكا لم يخض، في مجمل أعماله، أي تقنياتٍ تجريبية، ولم يُحدِث أيضًا أي تغييرات في اللغة الألمانية باستثناء محاولاته لجعلها أكثر وضوحًا وبساطة. وهذا الوضوح، في نظرها، هو ما يؤكد أن: "لا شأن كبير لحداثته وصعوبة كتاباته بذلك التعقيد الحداثي المرتبط بالحياة الداخلية، والساعي على الدوام للعثور على تقنيات جديدة وفريدة تمكنه من التعبير عن مشاعر جديدة وفريدة".

تقدّم الفيلسوفة الألمانية في دراستها قراءة في قصتي "المحاكمة" التي تروي قصة ك. الذي يحاكم على تهمة لا يعرفها ويُعدم، بعد إقناعه بأنه مذنب، بناءً على قوانين غامضة. و"القلعة" التي تروي قصة ك. آخر يكتشف بأن مطالبه البسيطة التي تُعتبر حقًا مشروعًا لكل إنسان، الحصول على عمل وبناء أسرة، لا يستطيع تحقيقها بنفسه لأنها تُمنح من قبل "القلعة" إما كـ "فعل خير" أو "هبة"، أو إذا قبل بأن يكون مستخدمًا لديها.

تشترك هاتان القصتان في الأجواء الغامضة، والرعب الذي تقول حنة أرندت إن "البيروقراطية" تكفي لتفسيره، لكن قراء ونقاد العشرينيات لم يجدوا فيها، مع ذلك، تفسيرًا كافيًا فلجأوا إلى تفسيرات أخرى عديدة تبدو لهم أكثر عمقًا، وقد عثروا عليها: "في نوع من السبر الغامض للواقع الديني، في التعبير عن لاهوتٍ مريع".

"المحاكمة" و"القلعة" قصتان تنطويان، في نظر أرندت، على نقدٍ حاد للنظام "البيروقراطي" الذي تجسده، في الأولى، "المنظومة الخفية" التي يرى ك. أنها المسؤولة عما يحدث له، وترى أرندت أن ما يصدر عنها إنما يصدر عن "بيروقراطية" تكمن قوتها في فكرة: "ليس من الضروري قبول أي شيء بوصفه حقيقة، على المرء أن يقبل كل شيء بوصفه ضرورة"، وفي جعل: "الكذب مبدًأ عامًا"، وفي قدرتها أيضًا على إخضاع الفرد لا من خلال القوة أو العنف، وإنما عبر مفاقمة شعوره بالذنب الذي، حسب أرندت، يبدّله ويكيّفه مع مصيره.

يتجسد النظام البيروقراطي، في القصة الثانية، في "القلعة" التي شيَّدت عالمًا وظيفته سلب كل ما هو إنساني وطبيعي من البشر بحيث تصبح "هبات" تُمنح لهم من أعلى، وهذا يشمل أيضًا جميع الحقوق المشروعة لكل إنسان. فما تقوله "القلعة" هو أن الصراع من أجل الحد الأدنى، في ظل النظام البيروقراطي، هو: "صراع يطاول مجمل المطالب الممكنة".

النظام البيروقراطي الذي انتقده كافكا في قصصه، هو نظام الحكم في النمسا التي تقول حنة أرندت إن مؤلف "في مستعمرة العقاب" كان ملمًا بأوضاعها السياسية، ويعلم جيدًا: "أن أي شخص يُقبض عليه على يد الآلة البيروقراطية هو شخص مدان بالضرورة، وأنه ليس في إمكان أحد أن ينتظر عدالةً في بلد يتواكب فيه تفسير الإجراءات القانونية مع نوع من إدارة الغياب التامة للقانون، وحيث يقابل اللافعل الدائم الذي يمارسه المفسرون آلة بيروقراطية تمتلك باستقلالية حركتها الذاتية امتياز كونها صاحبة القرار النهائي".

تقول المفكرة الألمانية إن كافكا، في نقده للنظام البيروقراطي، سبر أغوار مجتمع نصّب نفسه بديلًا عن الإله، وصوّر البشر بأنهم يتعاملون مع القوانين بوصفها شرائع إلهية لا تُستبدل. من هنا ترى أن الخطأ في العالم الذي يؤسر فيه أبطال كافكا يكمن في تأليهيته، أو في ادعائه بأنه يمثل الضرورة الإلهية.

هكذا تكون غاية كافكا تدمير هذا العالم، الذي تديره البيروقراطية، عبر كشف بنيانه الخفي من خلال تصوير التناقض بين ما هو واقعي وما هو مزعوم. وهي غاية بدت واضحة منذ أعماله الأولى، لكن القارئ الحديث لم ينتبه لها لأنه لا يرغب: "في الاستماع إلى صوت العقل أكثر. ومن هنا إن فهمه لكافكا كشف عن أنه فهم يتعلق بذاته أكثر مما هو فهم متعلق بكافكا نفسه".

استنادًا إلى ما سبق، تقول أرندت إن إضفاء صفة "الكابوسية" على عوالم كافكا ليس أمرًا صائبًا، ذلك أن الرعب الذي تنهض عليه عوالمه هذه، ليس إلا تعبيرًا عن طبيعة "البيروقراطية" وآليات عملها. كما أنها تستبعد أن تكون قصصه نبوءات للعالم للمقبل الذي ترى أن انحداره نحو الهاوية عملية متوقعة ومستمرة.

أما بشأن "اللاواقعية" التي يشعر بها قراء أعمال كافكا، فمردّها إلى الطريقة التي يحضر أبطالها من خلالها في متنها، وهم شخصيات ترى أرندت أنها تختلف عن تلك التي قد نلتقيها في العالم الحقيقي في أنها لا تملك دورًا محددًا، بل وتفتقر إلى وجود ملموس في "عالم شاغلي الوظائف" الذي أُسند فيه لكل شخص دور معين ومهمة محددة. وهنا تميّز المفكرة الألمانية بين الشخصيات التي تحضر في قصص كافكا، وبين أبطالها.

سبر كافكا في نقده للنظام البيروقراطي أغوار مجتمع نصّب نفسه بديلًا عن الإله وصوّر البشر بأنهم يتعاملون مع القوانين بوصفها شرائع إلهية

تُحدد حنة أرندت صفات "عالم شاغلي الوظائف" بقولها إنه المكان الذي يكافح فيه الناس، على اختلاف مكانتهم، بهدف الحفاظ على نوعٍ من الكمال ما فوق الإنساني، ويعيشون فيه نوعًا من التماهي مع وظائفهم، ولا يكون لهم في ظله أي صفات سيكولوجية، طالما أنهم ليسوا أكثر من "شاغلي وظائف" لا يستطيعون حتى الإقرار بارتكابهم أي خطأ، ذلك أن "قوى المجتمع"، أو قوى النظام البيروقراطي، تنكر عليهم إمكانية الخطأ البشري. مع ذلك، ورغم أنهم لا يستيطعون المحافظة على وضعهم ككائنات بشرية في ظل هذه الحالة، إلا أنهم يتصرفون على افتراض أنهم كليو الكفاءة.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "كافكا عربيًّا".. حين رأى طه حسين كافكا حفيدًا أدبيًّا للمعرّي

ليست شخصيات الكاتب التشيكي، التي تبذل جهدًا هائلًا في سبيل فهم الإنسانية البسيطة، كائنات واقعية وإنما نموذجًا لـ "الإنسان العام" بوصفه مثالًا للإنسانية. إنها، وفق قراءة أرندت، شخصيات تحركها النية الحسنة في عالم/ مجتمع يقوم على "مبادئ التشغيلية". ولهذه النية وظيفتها التي تتمثل في كشف بُنى مجتمع يعمل بوضوح على استلاب الحاجات الأكثر عمومية لدى الإنسان، بل ويدمر نياته أيضًا. إنها، بجملة أخرى، نيات تعري عالم يضيع فيه الإنسان ذو النيات الطيبة الذي لا يريد أن يقوم على أي وظيفة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الفكرة التي صنعت كافكا

أبجدية كافكا