02-فبراير-2020

نظريات القومية: مقدمة نقدية (ألترا صوت)

 

يعتبر صعود الحركات القومية أحد أهم أسباب الحرب العالمية الأولى، وكانت الحركات القومية العنصرية أبرز فاعلي الحرب العالمية الثانية، واليوم تعود قضايا القومية إلى الواجهة في ظل صعود خطاب اليمين المتطرف المنادي برفض الأجانب، والحفاظ على الهوية القومية للبلدان الأوروبية، وهو ما ينعكس -كالعادة- في بلدان إسلامية وعربية بدأت أعراض حمّى "الهوية القومية" تظهر عليها من جديد.

في محاولة علمية جادة لتناول قضية القومية، يقدّم الباحث التركي أموت أوزكيرملي عملًا موسوعيًا ومدرسيًا في كتابه "نظريات القومية: مقدمة نقدية" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013) فيبدأ بلمحة تاريخية عن آراء الفلاسفة والسوسيولوجيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ثم ينتقل إلى المسح الشامل لأغلب نظريات القومية: النظرية البدائية، نظريات الحداثة، النظرية الإثنية-الرمزية، والمقاربات الجديدة التي ظهرت في أواخر التسعينيات ومطلع قرننا هذا كالمقاربة النسوية ونظرية ما بعد الكولونيالية.

تُرجع أغلب دراسات أصول "العقيدة القومية" إلى الفكر الرومانسي الألماني عمومًا، أي إلى نهاية القرن الثامن عشر

يقع الكتاب في 447 صفحة قسمها المؤلف بين ستة فصول ومقدمتين، صدرت طبعته الأولى بالإنجليزية عام 2000، والثانية عام 2010 بعد أن أجرى المؤلف تعديلات كثيرة على الكتاب بعد قراءته للمراجعات النقدية التي وجهت إليه.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "في النظرية: طبقات، أمم، آداب".. الاستشراق وما بعده

ويتميّز عمل الباحث بذكر نُقاد كل نظرية وأهميتها اليوم في دراسات القومية، ويرفق بعد كل فصل قائمة طويلة من الكتب للقارئ الذي يريد الاستزادة، إضافة إلى تعريفه بكل مُنظِّر وأهم أعماله ودوافع كل باحث للاشتغال بدراسات القومية، ويقدّم معلومات حصل عليها عبر مراسلات شخصية مع الباحثين أنفسهم.

والمؤلف أموت أوزكيرملي باحث تركي مختص في دراسات القومية، أصدرَ أكثر من خمسة مؤلفات وعشرات المقالات في هذا الحقل، ويقوم الآن بإعداد سلسلة دراسات حول "الإسلام والقومية" وهو أستاذ العلوم السياسية في جامعة "بيلغي" في إسطنبول، وكبير الزملاء الزائرين في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، والملفت أكثر هو أنه أصدر كتابه هذا وهو ابن الثلاثين ربيعًا (ولد عام 1970) ومن المدهش أن عددًا من الباحثين قد قدّموا أعمالًا متميّزة وهم في هذا السن المبكر، وفي مراجعة سابقة عرضت كتاب "سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها" الذي كتبه وهو في الثلاثين كذلك.

من الفلسفة إلى النظرية الاجتماعية والتأريخ

تُرجع أغلب دراسات أصول "العقيدة القومية" -على حد تعبير الكاتب- إلى الفكر الرومانسي الألماني عمومًا، أي إلى نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، لا سيما كتابات روسو وكانط، الشخصيتان الأكثر نفوذًا في تراث عصر الأنوار. ففكرة روسو في الإرادة العامة، وتعليقاته على الميثاق البولندي كانت من بواكير النصوص التي ساهمت في ارتقاء فكرة القومية، إذ يعلّق على دستور بولندا المستقلة قائلًا: "هناك متراس واحد.. سيظل يجهز للدفاع، ولن يستطيع جيش اختراقه؛ إنه فضيلة مواطنيه، وحماستهم الوطنية، في الطابع المميز الذي تستطيع المؤسسات الوطنية طبعه وغرسه في نفوسهم.." وفي نص آخر، يصف روسو الشعور الوطني بـ"الشعور الجميل والحيوي الذي يمنح قوة حب الذات جمال الفضيلة كله، ويزوّدها بالطاقة التي تجعلها من دون أن تشوّهها، أكثر العواطف بطولة".

وبعد عقود من الزمن، ظهر المفكر الألماني يوهان هيردر ليكون حلقة الوصل بين التنوير والرومانسية الألمانية، وما ميزه عن سابقيه هو "اعتقاده بفرادة الثقافات الوطنية وعدم قابليتها للقياس". وهذا ينطبق خصوصًا على اللغة، يقول هيردر: "هل تملك الأمة أثمن من لغة آبائها؟ يسكن في هذه اللغة عالم كامل من التراث والتاريخ والدين ومبادئ الحياة وقلبها وروحها. وحرمان الأمة من لغتها أو الحط من شأنها، هو حرمانها من أثمن ما تملك".

يأتي تأثير دوركهايم من توكيده على دور الدين في تشكيل المجتمع الأخلاقي، واعتقاده بوجود "شيء أبدي في الدين"

الجدير بالذكر أن مساهمات الفلاسفة التي استعرضها المؤلف بإيجاز، من روسو وكانط وهيردر وفيخته وماركس وإنغلز ولينين وغيرهم، تعتبر في نظر إرنست غيلنر قليلة الأثر: "إذا سقط أحدهم تقدَّم آخرون لأخذ مكانه، لم يكن أحد منهم ضروريًا ولا غنى عنه"، ويستنتج: "لن نعلم الكثير عن القومية من دراسة أنبيائها، لأنهم عانوا وعيًا مزيفًا منتشرًا على أوسع نطاق".

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "فكرة الثقافة".. ما نحيا لأجله

وفي مرحلة لاحقة، لعبت النظرية الاجتماعية دورًا بارزًا ومؤثرًا في نظريات القومية، وأخذ السوسيولوجي إميل دوركهايم حصة الأسد في التأثير على منظري القومية، وتشمل عناصر تكوين الأمة عنده: العادات والتقاليد، والمعتقدات المستمَدة من الماضي التاريخي المشترك، ويشدد على قيمة التجمعات العمومية، والطقوس الشعائرية، والمراسم الاحتفالية، والشعارات الدلالية في تعزيز اندماج الأمّة وتشجيع تكاملها "فعبر إصدار الصرخة ذاتها، أو نطق الكلمة نفسها، أو أداء الإيماءة ذاتها، يشعر الناس بأنهم متّحدون".

أمّا لماذا كان دوركهايم مؤثرًا؟ يجيبنا أنتوني سميث بأنَّ أحد الأسباب هو توكيد دوركهايم لدور الدين في تشكيل المجتمع الأخلاقي، واعتقاده بوجود "شيء أبدي في الدين" لأن المجتمعات كلها تشعر بحاجة إلى إعادة توكيد نفسها، إعادة تجديد ذاتها بين الفينة والأخرى عبر الطقوس والشعائر والمراسم الجمعية". وجاءت مساهمة دوركهايم عبر كتابه "الأشكال الأولية للحياة الدينية" الذي نُقل إلى العربية أوّل مرة على يد حسن أنيس عامَ 1966م وصدرت نسخة جديدة منه حديثًا عن المركز العربي بترجمة رندة بعث.

في المقابل شدّد ماكس فيبر على دور السياسة والدولة، فكان تعريفه للأمة بأنَّها "مجموعة من الناس تشترك في العواطف نفسها المتمظهرة إلى حدٍ كافٍ في دولة خاصة بها؛ ومن ثم فإن الأمّة هي مجموعة من الناس تميل عادة إلى إنتاج دولة خاصة بها".

أما المؤرخون فهم "المجموعة الوحيدة التي لم تُتهم بتجاهل القومية في سياق مجادلات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر" بحسب أموت أوزكيريملي، فدور المؤرخين في الترويج لبعض القوميات – قومياتهم عادة- وكشف زيف ادعاءات أخرى، معروف على أوسع نطاق. وكثيرًا ما ابتدع المؤرخون الدليل الذي يثبت وجود أمتهم السرمدي أو "أعادوا اكتشاف أممهم" ومنهم مَن ابتكر التقاليد التراثية والأساطير والرموز والطقوس التي تكوّن الثقافات القومية، أو بلغة مؤرخ الحداثة الكبير إريك هوبزباوم: "المؤرخون بالنسبة للقومية كزارعي الخشخاش في باكستان لمدمني الهيروين: هم من يزوّد السوق بالمادة الخام الأساسية".

وجاءت حصيلة كل هذا التراكم في عدد من النظريات المختلفة، ابتدأت بأوهام النقاء والأصالة، وصولًا إلى النظريات الحداثية.

نظريات البدائية

البدائية تعبير شامل، استُخدم لوصف الاعتقاد بأن الجنسية الوطنية جزء طبيعي من البشر، مثل الكلام أو النظر أو الشم، وأن الأمم وجِدت منذ الأزل. ويأتي التعبير من صفة بدائي "Primordial" التي يُعرفها قاموس أكسفورد بأنها "صفة لشيء يتصل ببداية الزمن، أو يوجد منذ بداية الزمن، أو في زمن مبكر؛ فهو فطري وأصلي، وعتيق (عموماً)، ومغرق في القِدم". أما نظرياتها فلا تشكل بحسب أوزكيرملي فئة متراصة وحيدة الكتلة، بل يمكن تحديد أربع نسخ مختلفة منها:

أ- المقاربة القومية. ب- المقاربة الاجتماعية-الحيوية (البيولوجية).

ج- المقاربة الثقافوية. د- نظرية التواتر.

ويصف بروبيكر النظرية البدائية بـ"الحصان الميت منذ عهد بعيد، ومع ذلك يواصل كتّاب الإثنية والقومية حثّه بالسياط" ويضيف في موضع آخر "لا يوجد باحث جاد اليوم يتبنى الرأي الذي يُنسب روتينيًا إلى دعاة البدائية في حججهم الوهمية التي يسهل دحضها، ألا وهي أن الأمم والجماعات الإثنية كيانات بدائية لم تتغير".

ليست القومية مجرد ظاهرة ملازمة للتصنيع حتمًا، بل في "التطور اللامتكافىء" للتاريخ منذ القرن الثامن عشر

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "العنف: تأملات في وجوهه الستة".. في تثقيف السياسة

نظريات الحداثة 

بحسب أموت أوزكيريملي، برزت الحداثة كردة فعل على النظرية البدائية التي اعتبرت الأمم أزلية. أما منظرو الحداثة وعلى اختلاف مرجعياتهم وتفسيراتهم للأمم والقوميات، فإن القاسم المشترك هو اعتقادهم بحداثة الأمم والقومية. إذ "ظهرت الأمم والقومية في القرنين الأخيرين، وهما من منتوجات أنساق حديثة مثل الرأسمالية والتصنيع والتمدين والعلمانية وظهور الدولة الحديثة. وبهذا المعنى، يؤكد الحداثيون زعمهم البنيوي؛ إذ إنهم لا يعتقدون أن الأمم والقومية مجرّد أمر جديد تاريخيًا، بل يؤكدون أنها أصبحت ضرورة اجتماعية في العالم الحديث، وأنه لم يكن هناك مكان للأمم أو القومية في الحقبة ما قبل الحديثة".

يقسم الباحث نظريات الحداثيين إلى ثلاث فئات، بحسب منطلقاتهم في التحليل:

 أ- التحولات الاقتصادية أعطت الجيل الجديد من الماركسيين ثقلًا أكبر لدور الثقافة والأيديولوجيا واللغة في تحليلاتهم. وقد عثر الكاتب على تصريحات وعبارات توضح موقف الماركسية الجديدة في أعمال توم نيرن، ككتاب "تفكك بريطانيا: الأزمة والقومية الجديدة"، ومايكل هيكتر في كتابه: "الاستعمار الداخلي: الطرف السلتي في التطور القومي البريطاني". 

فنيرن مثلًا اعتقد بأن القومية "تحدد بواسطة ملامح ومعالم معينة من الاقتصاد السياسي العالمي، في الحقبة الممتدة بين الثورتين الفرنسية والصناعية والوقت الراهن"، وبتحديد أكثر: "لا تكمن أصول القومية في عملية تطور الاقتصاد السياسي العالمي بحد ذاته، أي أن القومية ليست مجرد ظاهرة ملازمة للتصنيع حتمًا بل في "التطور اللامتكافىء" للتاريخ منذ القرن الثامن عشر".

ب- التحولات السياسية ويتبناها جون برويللي، وبول براس، وإريك هوبزباوم، ويستند هؤلاء في تفسير القومية على: نهضة الدولة البيروقراطية الحديثة، أو توسع حق الاقتراع، أو تنامي دور النخب وصراعها على السلطة، أو تغيّر طبيعة الحرب.

فعلى سبيل المثال، تشير القومية عند برويللي إلى "الحركات السياسية الساعية إلى السيطرة على سلطة الدولة -أو إلى المشاركة فيها- وتبرير هذا العمل بالحجج القومية". 

اعتبر هوبزباوم الأمم والقوميات نتاجًا "للهندسة الاجتماعية"، ولذا أولى اهتمامًا خاصًا بحالة "اختراع التقاليد التراثية" ضمن عمليات الهندسة الاجتماعية

أما بول براس فاشتهر في أدبيات القومية بسبب تشديده على الطبيعة "الأدواتية" للإثنية والقومية، كما يقول الباحث، أي إن الهويات الإثنية والقومية أدواتٌ مناسبة في أيدي النخب المتنافسة لتوليد الدعم الجماهيري في المسعى الشامل من أجل الوصول إلى الثروة والسلطة والمكانة. وعمومًا اعتبر براس "مثالًا جوهريًا نموذجيًا للموقف الذرائعي" من القومية. 

اقرأ/ي أيضًا: مُرافعة دفاعية في كتاب "سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها"

فيما اعتبر هوبزباوم الأمم والقوميات نتاجًا "للهندسة الاجتماعية"، ويولي الكاتب اهتمامًا خاصًا بحالة "اختراع التقاليد التراثية" ضمن عمليات الهندسة الاجتماعية، وهي "جملة من الممارسات، المحكومة عادة بشكل علني أو ضمني بقواعد وقوانين مقبولة، ومن طبيعة شعائرية أو رمزية، تسعى إلى غرس قيم ومعايير سلوكية معينة عبر التكرار الذي يتضمن آليًا الاستمرارية مع الماضي".

جـ- التحولات الاجتماعية/الثقافية وأكثر من انشغل بهذه المقاربة، هما: إرنست غيلنر في كتابه "الأمم والقومية"، وبندكْت أندرسن في كتابه "الجماعات المتخيلة".

تعد محاولة غيلنر "أكثر المحاولات جدّيةً في تأسيس نظرية قومية" باعتراف خصومه، ويكفي لتوضيح أهمية عمل غيلنر أنَّ كتابه قد بيع منه 160 ألف نسخة مذ نُشر أول مرة عام 1983 في تسع عشرة طبعة. 

وتعد القومية عند غيلنر "مبدأً سياسيًا يؤكد أن الوحدة السياسية والوطنية يجب أن تكون منسجمة ومتطابقة"، ويقدم في كتابه تفسير غياب الأمم والقوميات في العصور قبل الحديثة عبر الإشارة إلى العلاقة بين السلطة والثقافة، ففي مرحلة الصيد-جمع الثمار، لم تكن هناك دول ومن ثم لم يوجد مجال للقومية التي تميل إلى منح الثقافة الوطنية سقفًا سياسيًا. ونظرًا إلى "عدم وجود تجانس ثقافي في المجتمعات التي تتمتع بالمعرفة الزراعية، لا يمكن أن توجد أمم".

وبحسب الباحث، يفترض غيلنر وجود علاقة مختلفة تمامًا بين السلطة والثقافة في المجتمعات الصناعية. فاليوم "تنتشر في المجتمع كله ثقافة عليا، تحدّده، وتعرّفه، وتكون بحاجة إلى الاستدامة عبر كيان سياسي". ويرى غيلنر أنَّ مفهوم الأمة مرَّ بعملية تاريخية هي تعميم "الثقافة العليا" والمقصود كما يشرح عزمي بشارة هو تحويل الثقافة وبخاصة اللغة "الفصحى" إلى ثقافة ولغة وطنية، وتمت هذه العملية بفضل التصنيع (المجتمع المدني ص: 264).

يذكر أنَّ غيلنر قد كتب كتابًا بعنوان "مجتمع مسلم" وأعدَّ بحثًا حول المغرب العربي بعنوان "المغرب مرآة الإنسان" ترجمهما أبو بكر باقادر، وعلّقَ بندكت أندرسن على البحث بقوله: "ربما كان إدوارد سعيد محقًا في مهاجمته؛ لجهله بالعربية" (الجماعات المتخيلة ص: 328).

أما نظرية "الجماعات المتخيلة" لبندكت أندرسن ذائعة الصيت، والتي تُرجمت إلى ثلاثين لغة في ثلاثة وثلاثين دولة، فقد أضافت بُعدًا جديدًا في نظريات القومية، فأندرسن يعرف الأمة بأنها "جماعة سياسية مُتَخَيَّلَة، حيث يشمل التخيل أنها محددة وسيدة أصلًا"، وهي متخيلة لأن أفراد أي أمة -بما فيها أصغر الأمم- لن يمكنهم قط أن يعرفوا معظم نظرائهم، أو أن يلتقوا بهم، أو حتى أن يسمعوا بهم، مع أن صورة تشاركهم تعيش حية في ذهن كل واحد منهم، ولن أتوسع هنا في الحديث عن هذه النظرية المهمة، لأننا سنقوم بمراجعة كاملة لكتابه قريبًا.

الإثنية – الرمزية

انبثقت هذه المقاربة من النقد النظري للحداثة كما يقول الكاتب أوزكيرملي، ونستعين لتوضيحها بأنتوني سميث أبرز ممثلي هذه المقاربة وأشهر أنصارها، ليشرح لنا أنَّ المقاربة تشدد على "تحليل للهويات الثقافية الجمعية على مدى حقبة زمنية تدوم قروناَ عدة:

- أهمية عوامل الاستمرار والتكرار والضم، بوصفها نماذج مختلفة لوصل الماضي الوطني بالحاضر والمستقبل.

- أهمية المجتمعات المحلية الإثنية الموجودة مسبقًا، أو الإثنيات، في تشكيل الأمم الحديثة.

- دور ذكريات العصور الذهبية، وأساطير الأصول والانتخاب الإثني، وطقوس إجلال الأبطال والأسلاف واحترامهم، والارتباط بالوطن الأم في تشكيل الهويات الوطنية وديمومتها".

ويرى منظرو هذه المقاربة أنَّه "لا يمكن فهم ظهور الأمم الحالية بصورة صحيحة من دون أن نأخذ في الحسبان أسلافهم الإثنيين". بكلمات أخرى، يحتاج نهوض الأمم إلى وضعه ضمن سياق الظاهرة الأوسع للإثنية التي شكلتها.

ويؤكد سميث أن مثل هذه المقاربة أكثر فائدة من البدائل الأخرى لثلاث جوانب:

أولًا: تساعد في إظهار أي الشعوب يرجح أن تبدأ حركةً قومية تحت ظروف معينة، وما هو مضمون هذه الحركة.

ثانيًا: تمكننا من فهم أهمية دور الذكريات والقيم والأساطير والرموز؛ إذ تشمل القومية غالبًا المسعى وراء تحقيق الأهداف الرمزية مثل التعليم بلغة معينة، أو امتلاك قناة تلفزيونية بلغة معينة، أو حماية المواقع الأثرية المقدسة.

وأخيرًا: تفسِّرُ المقاربة الإثنية-الرمزية كيف/ولماذا تتمكن القومية من توليد مثل هذا الدعم الشعبي العريض.

ختامًا:

حاول الباحث في كتابه تلخيص أكبرِ قدرٍ ممكن من النظريات والآراء في القومية، وصولًا إلى القرن الحادي والعشرين، مؤكِّدًا أننا دخلنا مرحلة جديدة في الجدل النظري بشأن القومية منذ نهاية ثمانينيات القرن العشرين، ثم انتقل إلى محاولة تأسيس إطاره النظري الخاص في تفسير القومية، جاعلًا من مفهوم الخطاب الفوكوي نقطة الانطلاق للتعامل مع القومية باعتبارها "خطابًا" وطريقة معينة لرؤية العالم وتفسيره، وإطارًا مرجعيًا يساعد الناس في استخلاص معنى منطقي، وبناء الواقع المحيط بهم، وادّعى أن نموذجه حاول التصدي لسؤال صعب، رفضت بعض النظريات التعامل معه أصلًا: "لماذا يكون الناس على استعداد للتضحية بحياتهم في سبيل أمتهم؟".

لكن إجابته جاءت ضبابية من وجهة نظري، كما كان نموذجه التفسيري غامضًا سواء في تعريفه للقومية وللأمة.

عزمي بشارة: "إن الأمور التي من أجلها يكون الإنسان على استعداد لأن يموت، هي نفسها الأمور التي يصعب شرحها أو تبريرها، لأنها وجودية

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "الثورة والقابلية للثورة": نظرية علمية لثورات الربيع العربي

وكاتب هذه السطور لا يجد في هذا الباب أمتع من نص المفكر العربي عزمي بشارة في سِفره الدين والعلمانية (الجزء الثاني: 1/ 740) يقول بشارة: "إن الأمور التي من أجلها يكون الإنسان على استعداد لأن يموت، هي نفسها الأمور التي يصعب شرحها أو تبريرها، لأنها وجودية. وما الوجود إلا ما لا يمكن تبريره، ولا يحتاج إلى تبرير. فنظرية نشوء الدولة بالعقد الاجتماعي تفسر الدولة، لكنها لا تفسر لماذا يقبل الإنسان أن يموت من أجل الوطن. الوطن ليس عقدًا اجتماعيًا، والوطنية ليست التزامَ عقدٍ، إنها أعمق من ذلك... وهنا تدخل عناصر تقترب في جوهرها من العلاقة بالسامي والنبيل والمقدس {..} وهي أيضًا الأمور التي يمكن أن تُستغَل، ومعها المشاعر التي تثيرها، مثلما الدين، لأمورٍ غير سامية وغير نبيلة على الإطلاق".

 

اقرأ/ي أيضًا:

الدولة عند بيير بورديو.. قراءة في أسسها الرمزية والاعتبارية

كتاب "التوظيف السياسي للدين".. الدولة البسماركية في الشرق الأوسط