26-مايو-2021

رنا سفكوني وكتابها سفر المسافر

رنا سفكوني صحافية سورية شديدة التمكن من أدواتها اللغوية وفطرتها الشعرية في الفصيح والمحكي، ومن بين ما تملكه من حصيلة من القصائد المنشورة في الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية آثرت أن تترك كل ذلك وتقدم نفسها في كتابها الأول "سِفر المسافر" (دار التكوين 2015) في سياقٍ مختلف ومفاجئ، يشبهها ربما ويشبه نمط حياتنا، لا يمكن تجنيسه، إذ تتراقص النصوص بين المقال والقصيدة النثرية والسرد والقصة، والسيرة الذاتية أحيانًا، وذلك كله بلغة محكمةٍ، من دون أن تكون أيًا منها، ومن دون أن تفقد في الوقت نفسه وحدتها العضوية وأصالة المضمون الذي يجوس بين العام والخاص، وتستقي معظم مواده من تفاصيل الحياة اليومية وأناسها البسطاء بأسلوب ساخر في معظم الحالات، وكأنها تريد إن تقول هذا الشكل المتنوع هو نمط حياتنا التي نعيشها جاعلة من المضمون والشكل وحدة واحدة.

كأن رنا سفكوني تضع بوصلات متعددة للحياة لا تخلو من ردة فعل على واقع المثقف النخبوي التقليدي، المأسور بأيدولوجياته وأفكاره

قبل أن تفتح الكتاب يستوقفك العنوان، لماذا سِفر؟ ومن هو المسافر؟ وإلى أين؟ السِفر في اللغة العربية هو الكتاب الكبير. فهل أرادته أي كتابها بوصلة لهذا المسافر؟ أم أن المعنى يرمي في مقصده أبعد من ذلك في الآية القائلة "كَمثلِ الحِمارِ يحملُ أسفارًا"؟

اقرأ/ي أيضًا: قصائد "جحيم حيّ": أناشيد الشتات

أما في صفحة الإهداء تجمع الكاتبة كثافة ثقيلة من العزلة والوحشة والغربة والاغتراب، وربما في محاولات للتمسك بالحياة من أوهن خيوط التواصل. الإهداء: "إلى نملة".

ولا تعوز الكاتبة من يقدم كتابها لتقدمه بنفسها بنص أولٍ طويلٍ بعنوان "مقدمة" في تمرد على ثنائية الزمان والمكان. تكتب: "سِفر المسافر هذا ليس كتابًا عاديًا، ولا استثنائيًا، لا هو من روائع الأدب، ولا من كتب التملق اللغوي. لا يحكمه زمن متصل ولا هو مرتبط بحبل أعوام متلاحقة. تستطيع قراءته وأنت على ظهر شاحنة، أو في ازدحام السرافيس، أو مضّجعًا إلى رخامة قبر أحدهم، أو جالسًا على مقعد حمامك. تستطيع أن تقرأه لبعوضة أو قملة، أو حين تعلق يدك بمقبض باص البلدية وجسدك يرقص مهتزًا أثناء الرحلة. وكذلك تستطيع أن تقرأه في زمن الحرب وزمن السلم".

وتختم هذه المقدمة بما يشبهُ عقد شراكة وصداقة مع القارئ كتواطؤ ضمني للبحث عن الحياة ومواجهة البؤس معاً وكأن القارئ شريك في الكتابة أيضًا: "في سِفر المسافر وضعت لك أيها القارئ مصيدة تقبض على اصبعك المبلل بلعابك وأنت تقلب الصفحات. لا لشيء سوى لتشاركني في جفاف اللعاب الذي أصابني وأنا أسرد لك حكايتي. لتكون شريكي في العطش، شريكي في جفاف الحلق وشريكي في البحث عن بئر أو نبعة أو ساقية. أكتب لك يا صديقي القارئ لأننا صدفة ماء. أفلا يجوز لنا في سفر المسافر أن نكون شركاء؟

رنا سفكوني

التاريخ/غير/مهم".

وقد أكون مجحفًا بحق الكتاب إذا قلت إن السخرية هي الطابع الرئيسي له، إلا أنها الغالبة في معظم النصوص التي قد تكون جارحةً موجعةً رغم فكاهتها، وتذهبُ دومًا في المعنى أبعد مما تقول نحو تأويلها وصرختها الدائمة لرفض الواقع وعُقده وتعقيداته.

الكاتبة مسهبة بالبساطة حينًا، وموغلة في البلاغة في مواقف أخرى حيال فلسفة الحب والموت والحرب والحياة. وتناول هذه الحياة من زوايا أخرى أكثر ملامسة للحياة بحد ذاتها. ساخرة حتى حين تتصنع الفصاحة: "وكنت قد رأيتُ وَخواخًا شديدَ الدلجِ، لا تدلف الفكاهة من لسانه، حتى قيلَ فيه "ألكم من عليها" لسوء قوله وضعف نوله المراد والمعنى. فكان خثرودًا يختخت تم يحنتم، فما احتملت نفسي سماع شعافيله".

تُنهي هذا النص بكلمة "ويحك" ثم تشرحها بعد شرح المفردات بمعنى "يلعنك".

كأن رنا سفكوني تضع بوصلات متعددة للحياة لا تخلو من ردة فعل على واقع المثقف النخبوي التقليدي، المأسور بأيدولوجياته وأفكاره، مفتقدًا للهوية مغتربًا عن واقعه، مضيفًا لهذه الحياة عقدًا أكثر من الحلول.

يمكن القول إن "سفر المسافر" بكليته تنحٍ عن تقليدية هذا المثقف ونرجسيته وإرهاصاته. إذ تجد ظله حاضرًا ضمن النصوص كحلزون لزج ثقيل الوطأة تجمع سفكوني شيئًا منه في نص "بعثي النفس.. ماركسي الهوى"، وهو ككل النصوص التي تشكل وحدة لا يمكن الاجتزاء منها، ولا يمكن بسبب طولها ادراجها كاملة في سياق هذه السطور.

وتبقى الكاتبة في دائرة الحياة البسيطة والاشخاص البسيطين كأبو جوان الذي تخصه بثلاثة نصوص بعنوان أبو جوان الهلالي، وأبو عبد القادر، وسعدية، وأصدقاء من الطفولة اختارتهم الكاتبة من آخر الطابور البشري المهمش لاستقاء المادة النقية الصافية للحياة القاسية من واقع هؤلاء الطيبين.

"أحب التقاط الجُمل من الغرباء الذين أعبرهم أثناء سيري في الطرقات، هي تأتي عبثية غير مقصودة ولا تحمل المعنى كاملًا.. إلا أنها تترك أثرًا مختلفًا بسامعها العابر، أثر فكاهي يُرخي ابتسامتك من صلابة شفتيك دون أن تشعر. مثلًا: "لسا الهيطلية أطيب من السحلب. ليه ما دقيت لأمك؟ تفضلي يا مدام عنا كلشي بالمحل. دفعت الفاتورة؟ لأنك جحش. أي وقلتله لهون لا بقى تدق".

تستمر سفكوني في التقاط هذه العبارات لتشعر وكأنك تمر بشارع مزدحم من شوارع دمشق بهموم وأحلام وآمال مختلفة، وتترك لك النصوص خيارات مفتوحة ومتعددة للتأويل في احترام لقارئها، مثيرة للكثير من الأسئلة بدهشة غير متوقعة في نهاية معظم النصوص، مثل موتٍ على هيئة خوف يتربص خلف كل منعطفٍ في تفاصيل حياتنا: "ما أن تترك كفك ممتدة في الهواء أمام أعين الغرباء حتى تلتصق بك صفة التسوّل. لن يخطر لغيرك بأنك تجرّب الشعور بثقل الهواء في كفك.. أو أن كفك سئمتكَ فابتعدت عن جسدك مسافة ذراع.. أو أنها تخاف أن تقبض بالأصابع على باطنها فلا يعود الغائبون من غيابهم لمصافحتها".

كل ما يدور هو تائه في زوبعة هذه الحرب مترنح بين الشك واليقين، بين الثقة والخوف، بين الحب والموت، بين الأمن والدمار، في حالة من اللامبالاة والحيادية تطفو على سطح السطور حين يكون العنوان العريض هو العجز.

"سفر المسافر" معلقات سردية من حياة معطلّة، جاءت مادتها الأولى من انتظارات آلاف النساء للحب، من كل رغبات المشاكسة، من الخوف، من الحرب

هذه الحياة بمنغصاتها ما قبل وما بعد الحرب حتى في العودة إلى الطفولة المبكرة وكأن ما نحن فيه اليوم قد بدأ منذ زمن بعيد.

اقرأ/ي أيضًا: رفقةُ القارئ بحثًا عن النّص المفتوح

تقول الكاتبة في "سفر المسافر" لنملتها ما عجز عن تناوله الآخرون دون تكلف أو انفصام عن الحالة المجتمعية. تقول أحوال ضحكاتنا وبكائنا وتناثر هوياتنا الهشة، أحوال حنيننا إلى البساطة في محاولة للتمرد على تعقيدات الحياة المعاصرة، من دون أن تلغي عقد شراكتها الذي أبرمته مع صديقها القارئ، فتعاتبه حينًا وتحتضنه حينًا آخر، وتُربكه وتشتمه أحيانًا أخرى.

"سفر المسافر" معلقات سردية من حياة معطلّة، جاءت مادتها الأولى من انتظارات آلاف النساء للحب، من كل رغبات المشاكسة، من الخوف، من الحرب، ومن ضرورة أن نكتب لنواجه الإملاءات الجائرة للحياة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن سركون بولص والوحشة الشعريّة العربيّة

عبد الفتاح كيليطو.. فن الاستطراد والخطأ