26-أغسطس-2023
كاريكاتير لـ اليكس فالكون تشانغ/ كوبا

كاريكاتير لـ اليكس فالكون تشانغ/ كوبا

في اليوم الأول من أيام الدراسة في مرحلة الماجستير في العلوم السياسية، طلب منا الأستاذ كتابة نماذج عن الأزمات التي يعشيها العالم العربي، فكتب أحد الطلاب أسماء الدول العربية ويقابلها الأزمة التي تعيشها، وما إن وصل إلى العراق حتى صاح الأستاذ: اترك العراق، لا أريدكم أن تكتبوا شيئًا عنه. اعترض الطلاب الذين يعرفون بلدهم بوصفه منجمًا للأزمات والظواهر السياسية والاجتماعية لكن دون جدوى. وهكذا صرنا نكتب ونتناقش حول أزمات سياسية يعيشها العالم العربي؛ الأزمة السورية، الليبية، الجزائرية.. إلخ.

لا أعرف الدافع الحقيقي الذي منع الأستاذ من وضع اسم العراق في الحلقات النقاشية، لكنني أعرف جيدًا أن من يتكلم بهذا الموضوع داخل مؤسسات الدولة سيكون مصيره "ما وراء الشمس"، أو سيُفصل من وظيفته على الأقل. فمن يبحث وينقِّب عن أزمات العراق قد يجد موته المحتّم بدلًا منها.

تجنح الأنظمة الاستبدادية إلى شغل الناس عن السياسية من أجل ضمان بقائها في السلطة، وغالبًا ما تفعل ذلك عبر الترويج للاستهلاك أو خلق أزمات اقتصادية تشغل المواطن

علاوة على ذلك، صارت أزمات الدول العربية التي تناولناها في فترة استمرت لأكثر من شهر، أشبه بالحطب المشتعل الذي نستدفئ به من الأزمات الكارثية التي يعيشها بلدنا، كما أنها تميع فينا مشاعر الغضب والاحتجاج. فنحن لسنا النشاز في عالم الأزمات التي يعيشها العالم العربي في عصر التناقضات والمآسي البشرية الهائلة!

ثمة عادة جارية فحواها الابتعاد عن السياسة في كل مناسبة، حيث نسمع هذه العبارة "بعيدًا عن السياسة". لكن السياسة سرعان ما تفرض نفسها على الحديث حتى لو كان عن الرياضة أو الموسيقى، وبالتالي تفقد عبارة بعيدًا عن السياسة قيمتها، فالناس تهرب عن حديث السياسة من منطلقٍ عدمي فهو حديث اللا جدوى، أو الحديث الذي ترشح منه القسوة ويخلّف الألم.

وهذا ما يتمناه الزعماء السياسيون غير الشرعيين الذين يتمنون وجود المواطن المستقر الذي جاء ظهوره بعد قمع واستبداد طويل كما يقول المفكر الفرنسي إيتيان دو لا بويسي (1530 – 1563) في كتابه "العبودية الطوعية": "حينما يتعرض بلد ما لقمع طويل، تنشأ أجيال من الناس لا تحتاج إلى الحرية وتتواءم مع الاستبداد، ويظهر فيه ما يمكن أن نسميه المواطن المستقر".  

والمواطن المستقر هو ذلك الذي يهتم بكل شيء إلا السياسة وأهلها. وقد يكون عارفًا بالسياسية وله القدرة على التحليل وتشخيص مكامّن الخطأ، لكنه يفضّل الصمت حفاظًا على سلامته، أو أنه جاهل بالأساس بهذه المواضيع، فيكون همه الأساس توفير لقمة العيش في ظل وضع اقتصادي سيئ، ما يعني أنه يقضي أغلب وقته في العمل، وبالتالي تضمحل إمكاناته الثقافية ويعيش وبينه وبين السياسة جدار ضخم، فصراعه الأزلي مع البرد والجوع لم ينتهي بعد.

في مقدمة كتابه "مفهوم الدولة" يقول عبد الله العروي: "يعيش المرء طوال حياته، وحتى مماته، دون أن يتساءل مرة واحد عن مضمون الدولة، ذلك ما يقع بالفعل لأغلبية الناس، وذلك أيضًا ما يتمناه أصحاب السلطة". فالسلطة تسعى دائمًا إلى نشر الوعي الزائف الذي يضمن لها البقاء لأكثر مدة ممكنة، وتشغل الناس بالبحث عن لقمة العيش، وهذا ما يخلق ثقافة سياسية تتأرجح بين "الرعوية" و"الخضوعية" بحسب تقسيمات ماكس ڤيبر للثقافة السياسية.

ولهذا تجنح الأنظمة الاستبدادية إلى "نزع التسيس" من الشعوب من أجل ضمان بقاء السلطة في أيديهم عن طريق الترويج لعبادة الاستهلاك، والفنون الهابطة، وخلق مشاكل اقتصادية تلهي المواطن وتصرف ذهنه عن التفكير في مصائر الناس والمجتمع.

لكن إلى ماذا يفضي نزع التسيس من الناس؟ وإلى ماذا يصير الإنسان؟ الإجابة على هذا السؤال تخلق لنا انطباعًا عن كيفية نظر المستبدين إلى شعوبهم، فهم يرونهم كآلات صمّاء في خدمة السلطة وكأن أوامرها تعبّر عن مشيئة إلهية.  

يعرّف أرسطو الإنسان بكونه حيوان سياسي، فهو يرى أن الاجتماعية ليست خاصة بالإنسان، ولكن السياسة تخصه، والمقصود بالسياسة هنا هو ميل الإنسان إلى ربط مصيره بالمجتمع الذي يعيش فيه، وهنا تتجلى الإرادة والوعي والاختيار، فهو يحس بموقعه في المجتمع ويتدخل فيه مؤيدًا ومعارضًا مغيرًا لبنيته. وبناءً عليه، فالإنسان الذي يُبعد السياسية عن اهتماماته يكون قد كبح أكبر تجلٍ لاستعداده الإنساني.

ومع ذلك. يذهب الكاتب والروائي الفرنسي هنري باربوس (1873 – 1935) في كتابه "العض على السكين.. إلى المثقفين" إلى أن التخلي عن السياسية هو تخل عن القضية الإنسانية، إذ بيّن باربوس في كتابه سبب نفور الناس وخاصة المثقفين من السياسية على اعتبار أنها فعل يليق بالسوقيين واللاأخلاقيين، بالإضافة إلى هيمنة النفس العدمية عند أغلب الناس من عدم تكافئ الصراع بين الخير والشر. كما أن المثقفين لا يريدون الخوض في السياسة لأن هذا الأمر ينزلهم من قلاعهم العاجية، فهم يحتمون بحسب وصفه في الجمل الضبابية ولا يريدون مشاهدة أحلامهم وهي تسحق بأقدام الواقع. فامتهان السياسة هو الانتقال من الحلم إلى الوقائع، ومن المجرد إلى الملموس، وهذا الاختبار الذي قد يفشل المثقف فيه، ولذلك يخبئ نفسه في حصون المعرفة المجردة وتلال الكتب.

يهرب الناس من الحديث عن السياسة لكونه "حديث اللاجدوى"، أو الحديث الذي ترشح منه القسوة ويخلّف لديهم الشعور بالألم

يقول الشاعر الروسي ألكسندر بلوك (1880 - 1921): "البقاء خارج السياسة؟ ولأي سبب يا ترى؟ إن ذلك يعني الخوف من السياسة، والاختباء منها، والتقوقع في النزعة الجمالية والروح الفردية، وترك الدولة تنكّل بالناس، كما يحلو لها، بوسائلها العتيقة. فإذا بقينا خارج السياسة فإن ذلك يعني أن شخصًا ما سيكون فقط مع السياسة وخارج مداركنا وسوف يتصرف كما يطيب له".

وبناءً على ما سبق، كيف يتسنى لنا تغيير الواقع ونحن نتهرب منه ونلبس غمامة تحجب عنا رؤية الوضع السياسي، ونطوف في واحة العبث والتوحد والسكوت عن الحقوق المهضومة وكأننا نعيش في لحظات مجمدة من الزمن لا سبيل لنا فيها غير مد أعناقنا إلى السماء بانتظار معجزة ما تخلق لنا عالمًا متوازنًا لا ظلم فيه!