16-أغسطس-2023
وزير الثقافة اللبناني محمد المرتضى وبوستر فيلم باربي (الترا صوت)

وزير الثقافة اللبناني محمد المرتضى وبوستر فيلم باربي (الترا صوت)

ترد في المثل الشعبي صورة ذات مغزى مفادها "مثل يلي مأمن للمي بالغربال" تدل على أفعال اللاجدوى، وتشبه إلى حد كبير ما نستشفه من رواية "دون كيخوته" حين يُوصف بكونه محاربًا لطواحين الهواء. على ذات النسق، يُمكن أن يدرج كتاب وزير الثقافة اللبناني محمد المرتضى إلى جهاز الأمن العام اللبناني الذي يطالب فيه بحظر فيلم "Barbie" من دور السينما اللبنانية "لأنه يتعارض مع القيم الأخلاقية" حسب وصفه.

يأتي هذا القرار نتيجة فراغ السياسة اللبنانية، أو ربما نتيجة جمود السياسة في لبنان وابتعاد المواطنين عن الشأن العام وانشغالهم بتأمين سبل عيشهم. ولأنه لا يوجد في لبنان سياسة ثقافية واحدة، ولا ثقافة سياسية وطنية موحدة، تُنتج هكذا قرارات لسد هذا الفراغ والخواء الفكري على الساحة السياسية. والسياسة الثقافية في لبنان إنما يضعها شخص وزير الثقافة، والمفارقة أن هذه السياسة تختلف تبعًا لاختلاف توجهات الوزير الطائفية والسياسية، مثلما تنسحب هذه المعادلة على غالبية الوزارات المتبقية التي تصبح رهن شخص الوزير وانتمائه الطائفي والحزبي.

تدل حادثة منع فيلم "باربي"، وغيرها، على ضيق الأفق وانعدام الرؤية لدى السياسيين اللبنانيين، وهم غالبًا من ذوي الذكاء المتوسط وما دونه

ليست هذه الحادثة الأولى من نوعها، فقد تم منع الفرقة الموسيقية "مشروع ليلى" من تأدية حفلتها في لبنان منذ سنوات خلت، وللمصادفة فالمعارضون في حينها كانوا من المسيحيين. وعلى هذا المنوال يتم في كل مرة منع ما يثير حفيظة طائفة ما أو حزب، فأصبحت الثقافة بذلك مفصّلة على قياس الطوائف والأحزاب، ونتج عما سبق معادلة: "خود واعطيني"، وكذلك "لا تستفزني فلا أستفزك"، ما جعل من الثقافة في لبنان سجادة رخيصة تطأها الأقدام.

لكن هذا المنع وغيره إنما يدل على حالة ضيق الأفق وانعدام الرؤية لدى من يتولون زمام السياسة في لبنان، وهم غالبًا من ذوي الذكاء المتوسط وما دونه. أشخاص وصلوا إلى السلطة لكونهم مرتبطين عضويًا ومعنويًا وماديًا بطائفة ما، أي أنهم منذ ولادتهم تم الختم على جبينهم بكونهم ينتمون إلى هذه الجماعة أو تلك، فتدرجوا في مناصبهم بناءً على جهدهم في الزود عن الجماعة والطائفة والحزب الذي يولونه الولاء الكامل دون أي إعتبار لأي قيم وطنية جامعة.

لنقل إنه لا ضير في الانتماء إلى جماعة ما، فشعوبنا ودولنا العربية إنما تقوم على هذا الشكل من الروابط، لكن المشكلة تكمن في غياب الحس الفردي النقدي والتفكير الشخصي الذي يجب أن يتحلى به المسؤول في موقع المسؤولية. ويجب على المسؤول أو الوزير أو النائب أو الرئيس أن يملك القليل من التفكير النقدي والثقافة والمعرفة قبيل إتخاذ قراراته وإلا خرجت هذه القرارات بناءً على "ما يطلبه جمهور الطائفة"، وليس بناءً على معطيات ومعايير محددة.

من هنا لا يخرج كتاب وزير الثقافة محمد المرتضى عن كونه إساءة لشخصه عبر إظهاره بمظهر من لا يلم بالثقافة. فالقرار إنما يشير إلى غياب كلي عن العالم المعاصر وآلياته والعولمة المتحكمة بمفاصله، كما أنه يشكل ضربًا لكل أشكال الحرية، ناهيك عن كونه "لا يقدم ولا يؤخر"، ربما باستثناء أنه يُظهر صاحبه بمظهر البطولة!

هذه الذهنية الطائفية المتحكمة في مفاصل الدولة العميقة في لبنان لن تُنتج سوى المزيد من الخواء والفراغ الفكري لأنها ذهنية جامدة تظن، وظنها طفولي مضحك، أنها قادرة على السيطرة على العالم وابتلاعه بأيديولوجيتها وفرض ثقافتها أو المحافظة على قيمها الأخلاقية عبر المنع. والمضحك أن من يدافعون عن القيم الأخلاقية للمجتمع اللبناني إنما هم غرقى ولن يسعفهم أي قرار منع من هنا أو هناك من متابعة الغرق عميقًا في مستنقع العولمة والرأسمالية المستفحلة. ومهما حاولوا حماية معتقداتهم وقيمهم، فلن ينفعهم الأمر إلا بتأخير لحظة غرقهم النهائية في وحول العولمة.

من يظن أن المنع قابل للتحقيق في عالم مفتوح يشبه من يضع "المي في الغربال"، ومن يحارب طواحين الهواء تمامًا. ربما فات معالي وزير الثقافة اللبناني محمد المرتضى اجتياح منصات العرض لمنازل اللبنانيين وللشعوب كافة حول العالم. وربما فاته أيضًا أن أجهزة التلفاز باتت تضم تطبيقات مخصصة لهذه المنصات مثل "نتفليكس"، و"ديزني"، و"إتش بي أو"، ما يعني استحالة تطبيق قرارات المنع أو المحافظة على القيم الاخلاقية والدينية لمجتمعنا اللبناني. ربما لم يشاهد معالي الوزير ما تعرضه هذه المنصات والخيارات اللانهائية من الأفلام والمسلسلات والوثائقيات التي تحتوي على مواضيع تتعارض جذريًا مع "القيم الأخلاقية" لمجتمعنا اللبناني.

هكذا قرارات ربما كانت لتأتي ثمارها في أزمنة سابقة، أزمنة كانت يد الدولة قادرة فيها على ضبط ما يصل إلى الجمهور. أما اليوم، في عالم فيسبوك وتويتر وإنستغرام وفيسبوك وتيك توك، عالم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والإنترنت، فإن هذه القرارات لا تستحق الحبر الذي طبعت فيه. إنها قرارات أشبه ما تكون بسمكة سردين تريد ابتلاع حوت كبير في عمق المحيط. ومن يظن أن بمقدوره وقف وتعطيل زحف العولمة والرأسمالية فهو واهم. وهكذا محاولات ليست سوى نتيجة ضعف وانهزام حضاري وتقني وعلمي ومعرفي في مواجهة العالم الآخر. التكور على الذات لحمايتها من غزو الثقافات والقيم المختلفة والمتنوعة لن يجدي نفعًا، لا بل لن يزيد الأمر إلا سوءً.

من هنا تأتي نصيحتنا إلى معالي وزير الثقافة اللبناني محمد المرتضى بالتراجع عن الكتاب. نقول لمعاليه: رفض اجتياح القيم الغريبة لا يتم سوى بفتح القنوات لمزيد من الحريات وليس بتبني ثقافة القمع. الخشية تكمن في أن هكذا قرارات يمكن أن تمتد وتكبر كما تكبر بقعة الزيت على قطعة من القماش.

لن تُتنج الذهنية الطائفية المتحكمة في مفاصل الدولة العميقة في لبنان سوى المزيد من الخواء والفراغ الفكري لأنها ذهنية جامدة

وهي بالتالي قرارات لها بداية لكنها غير معلومة النهايات لأن ثقافة المنع تدخل الشعوب والدول في نفق مظلم لا يعلم أحد نهايته، فمن منع فيلم، إلى منع احتفالية لفرقة موسيقية، إلى منع مسرحية، إلى منع نشر كتاب، إلى ملاحقة ناشطين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلى اعتقال صحفيين.. إلخ. تعزيز ثقافة المنع يرافقه تشديد على الحريات سيما حرية الرأي والتعبير، وبذلك يصبح المنع هو الوسيلة الوحيدة والسهلة للقمع.

وبدلًا من إيجاد الحلول التي غالبًا ما تكون صعبة، يلجأ المعنيون إلى القمع والترهيب والتسلط لأنها أسهل الوسائل بالنسبة لهم لاستخدامها على مواطنيهم. وإذا نجحت هذه الوسائل في ثني المواطنين، فإنها حتمًا ستفشل أمام آلة العولمة والرأسمالية الزاحفة. وحبذا لو كانت السياسات على شاكلة دعم الفنون والآداب ومجابهة المخاطر بالمزيد من حرية الرأي.

وإذا كان الهدف زيادة مناعة المجتمع والتصدي للعدوان على القيم والأخلاق، فإن أفضل وسيلة هي منع ثقافة المنع وإعطاء المزيد من الحرية للمجتمع، تمامًا كما هي الحال مع استخدام اللقاح ضد أمراض الأطفال. وكما هو معلوم، فاللقاح عبارة عن عينة من المرض يتم تلقيحها للطفل كمضاد للإصابة بالمرض بشكل فتاك.