05-سبتمبر-2021

لوحة لـ ادوين لورد ويكس/ أمريكا

ثمة عبارة تتداول بكثرة في مواقع التواصل الاجتماعي، تنسب إلى الفيلسوف سقراط، تقول: "إذا أردت أن أحكم على إنسان، فإني أسأله كم كتابًا قرأت وماذا قرأت". وهي تظهر أمامنا كلما برز موضوع حول القراءة، والمجتمعات المتخلفة، أو حينما يشتد النقاش بين أشخاص، ليصل إلى حد الشتائم فتذكر هذه العبارة كدلالة معيارية توصلنا إلى الحكم عليهم.

هل تصح قراءة الكتب كمعيار للحكم على الإنسان، وهل من الصحيح أن نزدري الآخرين أو نعيبهم لأنهم لم يقرؤوا هذا الكتاب أو ذاك؟

كم كتابًا قرات وماذا قرأت، فإما أن يوضع الشخص وفق هذه المعيار في خانة الجهلة والهمج الرعاع الذين لا يعُتد بأفكارهم وحواراتهم، أو أن يوضعوا في خانة المثقفين المتنورين الذين تضرب لهم التحية، ويتكللون بالعز والاحترام!

اقرأ/ي أيضًا: تُرجم قديمًا: الحفرة

والسؤال هنا هل تصح قراءة الكتب كمعيار للحكم على الإنسان، وهل من الصحيح أن نزدري الآخرين أو نعيبهم لأنهم لم يقرؤوا هذا الكتاب أو ذاك؟ أو أنهم لم يعرفوا أسم هذا المؤلف ولم يطلعوا أعماله؟ وهل من الصحيح أنَّ كل شخص يمتلك مكتبة ضخمة تزين غرفته، فهذا يعني إنه مفكر ذو ثقافة عالية تخوله بامتلاك سلطة المعرفة وتجعله في فردوس لا يرقى اليه إلا النادرون من البشر؟

نجد في التراث العربي الكثير من النصوص التي تعيب القراءة كسلوك مستقل بصرف النظر عن النتائج التي تحققها فنقرأ مثلًا: "حديث تدريه خير من ألف حديث ترويه، ونص أخر يقول أعقل الكلام عقل رعاية لا رواية.. ويشير القرآن إلى وصف الشخص الذي يحمل الكتب ولا ينتفع بيها ولا يعقل ما فيها (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا). هذا النص القرآني الذي نجد أن الفيلسوف ميشيل دي مونتين يكتب نصًا محاكيًا له فيقول: "إننا لا نصنع سوى حمير محملة بالكتب".

وفي التراث الغربي هنالك نص يقول: "العقل الذي يفكر خيرًا من العقل الممتلئ". بمعنى إنَّ الإنسان الذي قرأ آلاف الكتب وامتلأ رأسه بها وفكره معطل، ليس بأفضل من الإنسان الذي يفكر ويكوّن عالمه الخاص ويقود حياته، وفق ما يتوصل اليه تفكيره.

إنَّ تحويل القراءة إلى معيار للحكم على البشر؛ جعل منها غاية في حد ذاتها، فصار القراء يراكمون الكتب في برنامج الـGoodreads وصاروا يقرأون الروايات والقصص القصيرة، بالإضافة إلى الكتب يتطلب قراءتها مدة قصيرة لكونها لا تتطلب تفكيرًا؛ في سبيل تحطيم الرقم القياسي في القراءة، وبالتالي تصبح القراءة غير منتجة ولا تغيير من ذات القارئ وواقعه شيئًا، وتصبح مدعاة للتباهي وتصبح الكتب جزءًا من زينة المنزل، وصار لزامًا على المتحدث أن يظهر وخلفه مكتبة ضخمة تشفع له سقطاته وتجعله يحظى بالاحترام من قبل متابعيه، أمّا الذي يظهر وخلفه جدارٍ عارٍ فانه بالضرورة لا يعرف شيئًا ويصبح مثارًا للسخرية وعدم الاكتراث.

ومن هنا جاءت فكرة كتاب "ضد المكتبة" للكاتب والروائي خليل صويلح الذي دعا الى إعادة النظر في مفهوم المكتبة ودورها، بعد أن أصبحت مجرد باك جراوند لالتقاط الصور، وليس مكانًا معرفيًا تدفع القارئ الى التفكير وتغيير مصيره، وبناء على ذلك يستحيل جعل القراءة أداة معيارية للحكم على الأشخاص وان قرأوا الاف الكتب وحطموا الأرقام القياسية في عالم القراءة.

تحويل القراءة إلى معيار للحكم على البشر جعل منها غاية بذاتها، فصار القراء يراكمون الكتب في سبيل تحطيم الرقم القياسي في القراءة

في حوار مع الرئيس البولندي السابق ليش فاليسا الحائز على جائزة نوبل سنة 1983، جاء عنوان الحوار الذي نشرته صحيفة صنداي تايمز، مثيرًا للغاية "ليش فاليسا الزعيم البولندي الذي لم يقرأ كتابًا واحدًا"، يقول فاليسا ردًا على أحد الأسئلة التي طرحتها الصحفية أوريانا فالاتشي "أنني لست دبلوماسيًا، ولست خبيرًا في المراسيم ولا مثقفًا. بل انني شخص خشن وعامل، إنني لم اقرأ كتابًا واحدًا طيلة حياتي، وأنني رجل يريد الوصول الى هدفه". وتوجه له لاتشي سؤالًا آخر: "من أين تعلمت، يا ليش، أن تتكلم هكذا، ومن الذي علمك؟"، فيجيب: "لا أعلم قلت لك إنني لم أقرأ كتابًا أبدًا، بل لم أقرأ أي شيء، كنتُ أحل مشاكلي بمفردي دائمًا، وحتى المشاكل الفنية كتصليح جهاز تلفزيون أو مغسلة، والسياسة لا تختلف عن ذلك. وفي نقده للمثقفين يقول فاليسا: "إنهم يحتاجون الكثير من الوقت ليفهموا الأمور، وإلى أكثر من ذلك ليتخذوا قرارًا، انهم يناقشون ويدرسون الأمور وبعد خمس ساعات يتوصلون إلى نتيجة كنت قد توصلت إليها أنا خلال خمس دقائق أو خمس ثوان". وهو السبب الذي جعل فاليسا يصرخ دائمًا في وجه المثقفين "كونوا واقعيين، استعملوا أدمغتكم".

اقرأ/ي أيضًا: الماكنة تملأ جسد الأسطورة لغة جديدة

وهكذا تبقى التجربة وتغيير مصائر البشر هي المعيار الأسمى، بحسب ما تخبرنا تجربة فاليسا وغيره من الذين ناضلوا وغيروا وجه التاريخ، الأمر الذي يضع القراءة، ودورها في عمليات التغيير في زاوية حرجة، تتطلب الكثير من الفلترة للوصول الى غايتها مثل تغيير تكفير الإنسان وجعله صاحب ثقافة سياسية مساهمة.

لكن أن تبقى معيارًا لإطلاق الأحكام على الناس والمجتمعات فإنها تسبب بنتائج معكوسة، أخطرها جعلها غاية بحد ذاتها، وتتحول إلى ما يشبه سباق الماراثون من يفوز فيه يشفى من قلق السعي إلى المكانة، بواسطة قراءة أكثر عدد من الكتب خلال مدة قياسية بصرف النظر عن جدواها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيليب روث.. كابوس السيرة وغوايات الشهرة

مكتبة عبير عبد الواحد