01-سبتمبر-2021

لوحة لـ إدوارد مونش/ النرويج

سأحاول من خلال تحليل يربطُ بين القصيدة والقارئ لفهم النص والتأمل فيه، أن أكشف عن دلالةٍ ما في قصائد "ماكنة الأنوثة" (منشورات النادي 2021) لعلي العطار. ستكون الغاية منها تسوية المعاني المختلفة في الألفاظ، لأنّ الشاعر استعان بالمعنى البعيد عن اللفظ الشائع بطريقة يختفي بها وراء الرمز الأسطوري، وأخرى يؤصّل من خلالها مفهومًا جديدًا عن الجسد.

يظل الشاعر علي العطار في صراعٍ مع المفاهيم الفلسفية والتعبير من خلال الأسطورة، إلى أن يقدّم قصيدته وكأنّها منسوجة بالقيمة الفنية الإبداعية

يظل الشاعر في صراعٍ مع المفاهيم الفلسفية والتعبير من خلال الأسطورة، إلى أن يقدّم قصيدته وكأنّها منسوجة بالقيمة الفنية الإبداعية. وهذا ما يجعلني أميل إلى كفّة التعبير الشعري بطريقة النثر، لاستيعابه اللامحدود، وفتحه لفضاءات جديدة محورها الذات والآخر.

اقرأ/ي أيضًا: فيليب روث.. كابوس السيرة وغوايات الشهرة

"ذهبتُ إليها بعقل الحمامة وعيناي حمراوان وقلتُ الليل لا يأتي والأشجار لا تنام    إنها تحلم بالوحش يأكل أشكالها    أشارت إلى حِجرِها فوضعتُ حجارة رأسي وقالت الأشجار لا تعرف الحكاية    نمتُ وهي تغذي خلودي المؤقت انتصر الممكنن لنفسه وخسرتُ واقتصادًا أموتُ". المقطع كتلة واحدة، لا يمكن الاجتزاء منه وفهمه دون ربطه ببقية الجمل، ولكن أستطيع الربط بين مكوّنات هذا المقطع وبين الجمل الموضّحة لهذه الكتلة النصيّة، من القصيدة نفسها. الكتلة الموضوعة أمامنا، جسدٌ واحد، وأي إمكانيةٍ، أو طريقةٍ تفضح هذا الجسد؟. سيجد القارئ أنَّ هذه الكتلة الشعرية تشير إلى شيء، ولكن ما هذا الانفصال الذاتي بين الدلالة الآنية والمكانية داخل النص، وما مدى تضمين الاستعارة؟

هذه الكتلة الشعرية، القائمة على أساس النثر، ترتكز على جُمَلٍ مفصلية، لو ربطتُها مع الجمل الأخرى، لتغيَّر مصير النص، وهذه الارتكازات:

  1. ذهبتُ إليها بعقل الحمامة
  2. عيناي حمراوان
  3. الأشجار لا تنام = الأشجار لا تعرف الحكاية
  4. إنّها تحلم بالوحش يأكل أشكالها
  5. وضعتُ حجارة رأسي (إشارة إلى العقل)
  6. نمتُ وهي تغذي خلودي المؤقت

أ "ذهبتُ إليها بعقل الحمامة"

ولعلّ انحياز الشاعر في استعارة الحمامة بهذا المقطع، هو لتكوين صورة بدائية عن المتكلّم. فعقل الحمامة كان إشارة لتحوّل النزعة/ الرؤية البشرية التي تطمح بالتخلص من ثقل الأرض/ الجذور، واستبدالها بالخفّة/ الطيران. أمّا من ناحيةٍ أخرى، يقول في بداية القصيدة "ذهبتُ ورأسي عالقٌ في رأسها تعبًا وظّفته لخلق التوازن"، والإشارة هنا، أنَّ الحمامة، بصغر حجمها، فهي من الطيور التي توازن جسدها وأجنحتها في الفضاء، والتوازن ما هو إلّا نتيجة صراعات وحالات، يحاول المرء أن يوفّق من خلالها، بين الطموح والرغبة، وبين الواقع والحقيقة. أمّا لو أردنا ربط الجملة (أ) مع جملٍ أخرى تتشكّل في مضامر النص، فسنجد أنّ الشاعر استخدم مفردة – مفهوم العقل، في:

رُدَّت الريح إلى عقل الحجارة

والمُشار إلى عقل الحجارة هنا، هو عقل الحمامة نفسه، حين تجد الريح على مشارف الهبوب. ستطير دون حلمٍ أو تردّد. ونستنتج أنّ:

عقل الحمامة = عقل الحجارة

أمّا من ناحية البنية الصوتية، فرأيتُ أنَّ جملة عقل الحجارة مساوية تقريبًا لجملة عقل الحمامة. حيث استخدم الجزء نفسه (العقل)، والحجارة والحمامة، على تطابق تام في الحرف الأول والحرف الأخير، والوزن نفسه.

ب "عيناي حمراوان"

من خصائص اللون في التعبير الشعري، هو إعطاء إيحاء معيّن، يبرز من خلاله مقصد القصيدة، وتبيين الحالة التي يمرّ بها المتكلّم، أو المخاطَب. فلو فرضنا، أنّه قال (عيناي زرقاوان)، لاختلف تأويل المقطع بأكمله، وتغيّرت حالة المتكلّم. فالأزرق، في الإيحاء الشعري، يعطي دلالة السماء، البحر، الفضاء والحجر. (هذا في حال إستعارة جزء من الطبيعة). أمّا الأزرق في حالة وصف الذات، فهو يعطي دلالة الخوف والارتجاف. لكن لماذا استخدم الأحمر بصيغة (حمراوان) دون غيره؟ إنَّ اللون الأحمر، يعطي عدة دلالات، أبرزها: الجنس والدم. وفي هذا المقطع بالذات، مزج الشاعر بين الدلالتين معًا. فالمتكلّم في القصيدة، يدرك تمام الإدراك، أنَّ الجنس حاجة ملحّة للدخول في عالم الماكنة، واستكشاف جسدها الذي تكوّن منه.

من خصائص اللون في التعبير الشعري، هو إعطاء إيحاء معيّن، يبرز من خلاله مقصد القصيدة، وتبيين الحالة التي يمرّ بها المتكلّم، أو المخاطَب

إذًا، هو بحاجة للدخول، ولكن يجب أن يبقى حذرًا، فهو يستطيع تهشيمها متى أراد، وعلى هذا الجسد المستباح، يرى نفسه كجسدٍ جريحٍ، والجرح بؤرة الدم. قلت التهشيم، لأنّه يشمل المعنى: الفلسفي والمادي. وهنا نصل إلى نتيجتين افتراضيتين:

  1. عيناي زرقاوان = حدوث فعل الطيران، لأنّه يمتلك عقل الحمامة، والطائر بطبعه يحلّق في السماء (الزرقاء)، أي هو أقرب كائن للون الأزرق.
  2. عيناي حمراوان = الوصول لأعلى مرحلة من الرغبة في: القتل، الجنس. القتل لأنّه قال حمراوان، وهذا يؤكد ضرورة ظهور الدم على الجسد. الجنس، لأنّ الدخول الأوّل في هذه الماكنة، سينتج الدم، وهذا ما أصّله الشاعر في طبيعة جسد المرأة، أي إعادة تأصيلها من جديد بصورة إيحائية، لا رمزية.

ث "إنّها تحلم بالوحش يأكل أشكالها"، ح "نمتُ وهي تغذي خلودي المؤقت"

مقطعان يرتبطان ببعضهما ويعطيان النتيجة نفسها. فالوحش الذي يأكل أشكالها (صورتها)، هو نفسه الذي تغذّي خلوده (استمراره بالبقاء). فالمقطع الثاني "ح"، لو أردتُ القيام بتأويله من الجانب الأسطوري، فسأربطه مع مقطعٍ من ملحمة كلكامش، حين تروحُ البغي لإغواء (الوحش) أنكيدو، وتعدّل صفاته، ليصبح الأكثر رقّة وتذهب الملحمة للقول:

"وعلمّت الوحش الغر فن المرأة

فانجذب إليها وتعلّق بها"

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة عبير عبد الواحد

فالنتيجة ذاتها، سواء أكل صورتها أم بقي معها أبدًا، فإنّ الماكنة تحاول دائمًا أن تروّضه وتمسح عنه التراب، وتخفف وطء حدّته، وهذا ما يسمى فن المرأة في الإيقاع وترويض الكائن الأكثر بدائيةً. تحلم بالوحش الذي يقتلها، وتغذي خلوده المؤقت، فإلى أيّ درجة من التضحية تحمل هذه الماكنة؟

فن المرأة:

  1. تهذيب الوحش الذي يأكل أشكالها: بالعين، بالجسد.
  2. تغذّي خلوده المؤقت (أي تعطي إمكانية لبقائهِ حيًّا)

وبهذا الافتراض، فإنّ الدلالة التي وصلتُ إليها، أنَّ الوحش إذا أراد البقاء الدائم، عليه بالرضوخ إلى فنّ المرأة، وهذا الرضوخ قائم على الرؤية والمادة (العين والجسد).

أمّا فلو فرضتُ افتراضًا أخيرًا، فسأصل إلى نتيجة مفادها:

بما أنَّه جاءها بعينين حمراوين، فإنّه أبقى العين مفتوحة دائمًا، وإنّ انفتاح العين الدائمي، دون انطباق الجفن، سيعطي للعين لونًا أحمر، وبقاء العين مفتوحة دائمًا، يشير إلى ذهوله بها، حيث لا يستطيع العيش إلّا بمشاهدتها، أو رؤيتها وهي أمامه، وبهذا أكل صورتها بعينيه وتشرّب بها. انتصر الوحش وخسر المتكلّم ومات ببطء.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "الحلو الهارب إلى مصيره".. صور لم تكتمل

نصائح فسوافا شمبورسكا: حاول أن تحملق من الشباك في يأس