25-يناير-2016

قاسم مرواني (الترا صوت)

تخترق اللحظة التي نقع فيها في الحب عالمنا اليومي المتخم بالاعتيادية والكسل والخواء، فتحيله إلى عالم محتشد بالرغبات والمسرات والأشواق. المأساوي في الحب ليس في عدم حضوره فينا كلية، بل في تبدده، ضياعه، وخفوت ألقه كلما أوغلنا في إشباع نهمنا الطفولي منه أكثر.

ينتمي العالم القصصي لقاسم مرواني في "وجه مارغريت القبيح" إلى تيار الحياة العريض

يطالعنا المأساوي والمفجع في حياة بطل "وجه مارغريت القبيح" (دار نوفل 2016)، في فعل غياب الحبيبة ذاتها "مارغريت" التي قرر الموت أن يحيلها إلى عدم، وقرر مرواني أن يحيل غيابها إلى مشروع استعادة دائم. أمام عبث هذا الوجود لا يكتفي مرواني بالتساؤل عن القصدية من وراء هذا الشقاء الذي قررت الآلهة ابتلاءه به، "إني أتساءل: ماذا اقترف إيانا يا عزيزتي لنكون في لوحة كئيبة من لوحات الرب؟"، بل يذهب في رحلة حج كبرى، مسلحًا بأمل استعادة طراوة اللحظات التي عاشاها معًا. طيلة العشر السنوات الماضية من تاريخ رحيلها وهو يواصل فناءه اليومي في محبوبته علّه يشفى منها دون جدوى. ذاك أنه ما إن يعثر على طيف ذكراها في النهار، حتى يتبدد حضورها في الليل، تاركًا إياه في لجة فراغ روحي كبير. 

في لحظة إشراق، يختار مرواني الكتابة عن الانتحار، لا ليهرب من وجه مارغريت الجميل الذي أحاله الغياب إلى قبح كلي، بل ليقبض على ألقه من جديد عبر إغواء الحكاية وسحرها، ولسان حاله يقول: أنا هنا لأحدثك عن هذا العالم الذي يواصل الحياة رغم ما أصابك، رغم ما أصابني، أنت جزء كامل منه، هذا تقرير مقدم لك عنه، فخذيه على محمل الجد، ماذا؟ "هل قلت موتى؟ لا موتى هناك، ثمة تبديل عوالم".

ينتمي العالم القصصي لقاسم مرواني في "وجه مارغريت القبيح" إلى تيار الحياة العريض، حيث الناس كما هم، منخرطين في التنافس على موارد العيش المحدودة، بكل ما يستدعيه ذلك من استخدام للعنف وتبريره ضد الآخرين بقصد إخضاعهم. 

في "وجه مارغريت القبيح"، يضعنا قاسم مرواني أمام الشر الذي أطلقته الحرب الأهلية من أعماق كل واحد فينا

في "أميرة كنشاسا"، تستقطب أميرة ابنة الستة عشرة عامًا، المولودة من أب لبناني وأم أفريقية كل أشكال العنف المعنوي الذي تحفل فيه الثقافة الشعبية ضد الآخر المختلف بلون البشرة، فالأفارقة وفق منظور تلك الثقافة مجرد عبيد يجوز الحط من آداميتهم، والنيل من كرامتهم وتبرير العنف ضدهم. 

أما في "فلسفة محارب"، فيضعنا مرواني وجهًا لوجه أمام مقدار الشر الذي أطلقته الحرب الأهلية من أعماق كل واحد فينا ضد الآخر، الذي تحول بين ولحظة وضحاها إلى عدو من فئة الشيطان الرجيم، مع إنه لم يكن يومًا سوى جار لنا في حي، أو زميلًا في مدرسة، أو زبونًا في متجر. البشر في الحرب الأهلية إما مشاريع قتلة أو أرقام لضحايا يجب ألا تأخذنا بهم رحمة ولا شفقة.

تبدو حدود التمايز الاجتماعي في المجتمع اللبناني صلدة وغير قابلة للكسر أو الإزاحة، فلا الحرب بكل قسوتها تمكنت من إحداث شرخ في جدرانها الحديدية، ولا الحداثة المزعومة التي يدعيها أبناء الطبقة الوسطى تمكنت من زحزحتها.

نايا القادمة من الحي الشعبي في "أحذية فان غوخ" تعجز عن أن تصير زوجة لفؤاد؛ العازف البارع، صاحب المركز الاجتماعي والمردود العالي، رغم جمالها وتعليمها الجامعي. طيلة ثلاثة عشر عامًا من عمر علاقتها مع فؤاد ظلت عشيقة، وظل المال الحبل السري الذي يربطها بذاك المجتمع، وحين تم الاستغناء عن خدماتها قدمت لها جائزة ترضية، وتركت كما بدأت وحيدة لا أحد يشبهها في هذه الوضعية الوجودية أكثر من فردة الحذاء اليسرى برباطها المتهدل في لوحة الأحذية لفان كوخ. 

الحكاية الأولى التي افتتح بها مرواني مختاراته القصصية تركت بلا عنوان، سوى من احتجاج ضد عبثية الحياة 

في "وجه مارغريت القبيح"، نجد أنفسنا بصحبة "كاتب حساس" يحتل الشكل الفني للكتابة عنده مكانة قصوى، الأمر الذي يضعنا دومًا أمام نسيج حكائي يضج بالمتعة والغنى والتشويق. ففي قصة "مائة ألف عام من النهايات" نحن أمام فيلم روائي قصير، ينقل فيه مرواني عين كاميرته من مشهد إلى آخر بالتوازي، شاب في قرية نائية يطلق النار فجرًا على كلبة اقتحمت قن دجاجاته بحثًا عن طعام لجرائها الجوعى. عجلات سيارة شيخ مسجد القرية في طريق عودتها تدوس دم كلبة لم يجف بعد، فيما الشيخ نفسه ينأى عن حياة الطفل فادي الذي يحتضر على مقربة منه. في الختام تتوقف الكاميرا قبالة كهل خمسيني يعاقر خمرة ممزوجة بالسم احتجاجًا على موت ابنه الشاب في حادث سير عبثي، وقد فرغ للتو من كتابة قصاصة يسخر فيها، من النهايات التي يتلطى خلفها الموت منذ بدأ الخليقة.

الحكاية الأولى التي افتتح بها مرواني مختاراته القصصية تركت بلا عنوان، سوى من احتجاج ضد عبثية الحياة التي تسحق من يكافح من أجلها، وبلا عنوان أيضًا ترك مرواني صورته على الوجه الآخر للغلاف، ربما ليقول لنا: في ظل كل هذا العبث أنا لا أحد! في الحكايا ذاتها، ولتكن بعنوان "بمقدوري الآن أن أحكي لكم موتكم" يتم هدم الحدود الفاصلة بين الخيال والواقع، ففي الواقع نجد أنفسنا بصحبة رجل يسافر من صيدا إلى صور، بصحبة أحلام يقظته السوداء، فيما رغباته الشيطانية لا تكف عن إحالة كل ما تصادفه إلى عدم، فليمت هذا المتسول العجوز الأخرق الذي لا يحسن سوى البلادة. وليصلب هذا الجندي من مؤخرته على عمود مبدل السرعة، فما من مصير يليق بالجنود الذين يحلمون باحتضان زوجاتهم مثل هذا. ولنسافر نحن الجالسين في الباص عبر الزمن نحو الأمام لنبطل إمكانية ولادة سمكري سوري جديد يستبطن في داخله إفساد هناءة عيش سمكري لبناني محتمل، ومرتين نحو الخلف لنستعيد الزمني الذهبي لحضور مارغريت في العالم، فكل زمن لا تحضر فيه مارغريت باطل وقبيح وعاطل عن العمل. هذا العالم عبث، ساهموا في انهيار عوالمه واتركوا لي متعة الكتابة عن خراباته، خراباتكم.

اقرأ/ي أيضًا:

زمن السيداف.. حفر في الرمال المتحركة

خالد خليفة.. بلاد في جنازة