27-مارس-2018

من أحد عروض مسرحية زواج فيغارو

الكلمة حدث جلل، صوت المهمشين أحيانًا، وصوت السلطة الأوحد أحيانًا أخرى، والمسرح كمساحة مكانية للكلمة لطالما كان صوتًا لكليهما؛ السلطة والناس. لكن إلى أي حد يمكن أن يكون المسرح مصدر إزعاج بكلمته ضد المجتمع بطبقاته السياسية، وتابوهاته الاجتماعية؟ كيف يمكن للمسرح أن يكون مجرد مسكن لآلام الناس اليومية فقط؟ هل لوظيفة المسرح الاحتجاجي تاريخ؟

إلى أي حد يمكن أن يكون المسرح مصدر إزعاج بكلمته ضد المجتمع بطبقاته السياسية، وتابوهاته الاجتماعية؟

العلاقة بين السلطة والمسرح تكشف بالضرورة العلاقة بين السلطة والمساحة المسموح فيها بالتعبير، فهناك مجتمعات تسمح بمسرح الاحتجاج لغاية أساسها امتصاص نقمة الناس عليها، عندها تنتقل الهموم اليومية من دائرة التداول السري إلى براح الكشف، الذي يهدف إلى مغازلة الوعي الشعبي لتهدئته وتسكينه أحيانًا.

اقرأ/ي أيضًا: هوية أفريقيا.. من المسرح المفتوح إلى وهم الاستقلال

نماذج مسرح الاحتجاج العالمي 

من بين أشهر كتاب الدراما الإغريقية سوفوكليس ويوربيدس وأرسطوفانيس. نموذج مسرحية "أنتيغون" التي ألفها سوفوكليس، حيث غلبت عليها لهجة الاحتجاج والتحريض، من أجل الانتصار للإرادة الإلهية في سبيل تحقيق قيم السماء على يد أنتيغون، التي تعارض القانون الوضعي الذي فرضته سلطة "كريون"، حتى تقيم في النهاية صورة العدالة الإلهية.

في المسرحية، يأمر كريون بالتمثيل بجثة "بولونيس" أخو أنتيغون، ويأمر بأن يترك في العراء دون دفن،  بتثور ثائرة أنتيكونا وتتحدى إرادة السلطة الممثلة في كريون، وتحاول دفن الجثة، فيأمر كريون بإعدامها، وتتحول أنتيغون إلى داعية إلى التمرد على السلطة، بدعوتها الجوقة التي تقوم بتنفيذ إعدامها بالانضمام إليها.

أما في العصر التنويري، فكانت مسرحية "زواج فيجارو" للكاتب الساخر كارون دي بومارشيه إحدى المسرحيات التي مثلت جبهة احتجاج بشكل رسمي، حيث سخر فيها بومارشيه بشكل رسمي من امتيازات النبلاء. الجدير بالذكر أن هذه المسرحية التي قدمت على مسرح فرنسيز عام 1784، جعلت الجمهور يقتحم أبواب المسرح، ويهاجم الحراس الذين مات بضعة منهم اختناقًا.

تم تقديمها لاحقًا بنجاح ساحق في ثمان وستين موسمًا، وعلى الرغم من المفارقة التي تشير إلى أن بومارشيه لطالما عاش في كنف الملكية الفرنسية، إلا أن هذا لم يمنع أن تكون مسرحياته ساخرة سخرية لاذعة من الأشكال المستفيدة من السلطة والقريبة منها، حتى أن لويس السادس عشر أبدى امتعاضه الشديد من المسرحية بقوله: "هذا كريه وبغيض ولا يصح أن يقدمه المسرح ولا بد من هدم سجن الباستيل، حتى لا يكون لهذه المسرحية نتائح أسوأ وأعمق من هذا الهدم"، وهو ما ذكره سعد أردش في "كتاب المخرج في المسرح المعاصر".

"فيت روك" المسرحية التي مثلت احتجاجًا على حرب فيتنام ولّدت الاتجاه إلى مسرح الشارع

في إسبانيا، يسخر سرفيناتس في رائعته "دون كيخوته دي لا مانشا" من النبلاء بطريقة غير مباشرة، من خلال رحلة الدون كيخوته ومعاونه سانشو بانثا، ويحاول لوبي دي بيجا في أدبه أن يلمح لفساد الحكم والسلطة وما قد ينجم عنهم من انفجار للمظلومين.

اقرأ/ي أيضًا: محمد لحواس.. أن يلعب الممثّل دوره مضاعفًا

الأديب الألماني جيرهارد هاويتمان، واحد من أعلام المسرح الاجتماعي في ألمانيا، تناول مأساة الطبقة العاملة من العمال نم خلال مسرحيته "النساجون"، التي تتناول أحداثًا تعود إلى العام 1884 حين تمرد بعض العمال الاعتياديين على أوضاع عملهم القاسية، ويثورون على صاحب مصنعهم وتُبعث فيهم الحياة من جديد.

المسرح المعاصر.. لوحات الاحتجاج على الخشبة

بعد الحرب العالمية الثانية وانتشار بعض حركات الوعي بين الشباب الأوروبي والأمريكي، كانت هناك نماذج لا بأس بها تجسد مسرح الاحتجاج، من بينها برزت الكاتبة الأمريكية ميجان تيري ومسرحيتها "فيت روك" التي مثلت صوتًا للاحتجاج على حرب فيتنام.

هذه المسرحية وغيرها مثلت باكورة اتجاه مسرحي يدعم الارتجال والاتجاه إلى مسرح الشارع والمقهى. يذكر لنا ثروت عبد المسيح في كتابه  النادر "مسرح اللامعقول وقضايا أخرى" مثالًا آخر، هو مسرحية "انظر خلفك بغضب" التي تعبر عن الغضب والاحتجاج الذي يعبر عنه شباب فترة ما بعد الحرب. المسرحية التي ألفها الكاتب البريطاني جون أوزبورن عام 1956 تحولت إلى عمل سينمائي في منتصف الخمسينيات. في المسرحية يبدو الأبطال الشباب غاضبون، يشعرون بالاغتراب في الوطن، ويشعرون بالرغبة في التمرد على كل شيء، ويقعون أيضًا في حالة تمرد طبقي خلفته ظروف الحرب.

لا يمكن إغفال مسرح بريشت وبيتر فايس اللذين وضعا المسرح في خدمة الاحتجاج والرفض، ولم يناظرهما في المسرح العربي سوى سعد الله ونوس، الذي قدم نظريته نحو مسرح ملتزم، خاصة بعد نكسة 1967 حيث قدم فنًا بعيدًا عن الصيغ الخطابية، وقد تجلى ذلك في ثلاث نصوص مهمة منها "حفلة سمر من أجل 5 حزيران"، ومسرحية "الاغتصاب"،  وكذلك "فصد الدم" التي ألفها قبل النكسة عام 1963.

قدّم الكاتب السوري سعد الله ونوس نظرية لمسرح ملتزم، خاصة بعد نكسة 1967

هي مسرحيات جعلت القضية الفلسطينية في صلبها دون صخب، كما اتسمت بأبعاد سيميائية في التناول والمعنى. ففي مسرحيته "فصد الدم"، التي تعني في الموروث الشعبي، طب الحجامة أو تنقية الدم، يظهر اثنان من الشباب أحدهما عليوة والآخر علي، وهما شابان متماثلان، على أن لكل منهما فروقه الجوهرية التي قدمها ونوّس كصراع بين قطبي الحياة الخير والشر، أو كما يقول حسن عطية: "أحدهما يظهر للآخر كأنه نظيره (الكا) في الميثولوجيا الفرعونية"، وهو صراع فيه احتجاج وغضب يصل ذروته في نصوص كـ"اغتصاب"، الذي تتجلى فيه قمة هدر الكرامة عند العربي في مشهد اغتصاب دلال أمام زوجها إسماعيل الذي يهتف: "لا شأن لها عذوبني كما تشلؤون، ولكن اتركوها تخرج بعيدًا عن هذا الجحيم".

اقرأ/ي أيضًا: مصر.. المسرح في التلفزيون

الحقيقة أن مسرح الاحتجاج ليس رهانًا على السياسة دون المسرح، بل هو رهان على ارتباطهما سويًا للتعبير عن الناس، بكل ما يمكن أن تسمح به الجماليات التي تمنح العمل إنسانيته ورونقه، وكذلك قيمته وخلوده.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"ثياترو" الموريتانيّ.. إشكالية التأسيس

"جاز" مارسيل بانيول.. ملحق عن خيبة الأمل