20-ديسمبر-2018

الراحل عبد الله بولا

لم يكن الفنان التشكيلي والمفكر السوداني عبد الله بولا يملك من الوقت الكثير لينفقه في انتظار الموت، وقد نفخ في الحياة الثقافية من روحه الخلاقة ما يكفي أن يمنحه الخلود الفني، باذلًا للقراء وزار المعارض التشكيلة تجربة ثرة في الكتابة والرسم، تنطوي على قدر من التفرد والبراعة.

حاول عبد الله بولا التمرد على النزعة الطبقية للمبدعين، والانتقال إلى غِمار الناس بلا مواربة

في أطروحته "بداية مشهد مصرع الإنسان الممتاز"، حاول بولا التمرد على النزعة الطبقية للمبدعين، والانتقال بالفن من حكرية الرجل الممتاز إلى غِمار الناس بلا مواربة، مؤمنًا ومتسلحًا بواقعية الفن وشيوعه، كونه المعبر والمتصل بالجميع.

 

يوم باريسي حزين

منتصف هذا الأسبوع، أغمض عبد الله بولا جفونه للمرة الأخيرة في العاصمة الفرنسية باريس، التي اختارها ملاذًا لجسده، دون أن تعتقل روحه، إذ ارتحل معه الوطن بكل مواجعه، وظل وفيًّا للأزمنة والأمكنة التي قضى فيها ردحًا من الإبداع، فعمل في سبعينيات القرن المنصرم أستاذًا للفنون بمدرسة حنتوب، أو حنتوب الجميلة كما صوّرها، وخلط فيها علاقة الأستاذ بطلابه، فكان مندغمًا معهم، دون حواجز، إلى درجة التماهي مع أفكارهم، وحلت عليهم عبقريته، وهذا تقريبًا ما جعل بولا مدرسة بحد ذاتها، تؤمن بالندية والمثاقفة.

اقرأ/ي أيضًا: جائزة نيرفانا للقصّة القصيرة في السّودان.. ثلاثة تجارب في الواجهة

منبر الحداثة الطليقة

بالرغم من أن بولا لم يعبأ كثيرًا بجدلية المثقف والسُلطة، إلا أنه ظل منافحًا بضراوة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، منحازًا للجمال أينما كان، مؤمنًا بالحرية على إطلاقها في التعبير والتفكير، وقد اجتهد باكرًا هو ورفيقة دربه نجاة محمد علي في إطلاق منبر "سودان فور أوول"، مؤَمِّنًا للمشتغلين في الحقل الثقافي مساحة حرة للكتابة والنشر، استعصت عليهم في أماكن أخرى، وأفاض ذلك المنبر من الحداثة، أو كما أسماها "الحداثة الطليقة".

بولا ابن عامل السكة الحديد بكل ما تعنيه السكة حديد من انفتاح على الآخر وتواصل، ولد في العام 1943 بمدينة بربر شمال السودان، وزحف بمواهبة المتدفقة إلى العاصمة الخرطوم، حيث تخرج في كلية الفنون الجميلة والتطبيقية نهاية ستينيات القرن المنصرم، وعمل مدرسًا للفنون وكاتبًا لا يشق له غبار، قبل أن يهاجر إلى فرنسا، ويحصل على الدكتوراه من جامعة السوربون في العام 1984 ومن أسفاره "بداية مشهد مصرع الإنسان الممتاز"، وكتابات في الهوية الثقافية التي جمعها تحت عنوان "شجرة نسب الغول".

الغريب المجنون  

عندما تم قبوله بحنتوب معلمًا للفنون توغل فيها بطلاقة، وكان أول ما صعد خشبة المسرح، ومن ثم حمل آلة الاكورديون وبدأ بالعزف على مسامع الطلاب، مما أثار حيرتهم وإعجابهم فاحتشدوا حول هذا الغريب المجنون، وحين سألوه عن اسمه أجابهم بأنه معلم الفنون الجديد، فأطلق عليه الطلاب لقب بيكاسو، وهو اللقب الذي اشتهر به في حنتوب طوال فتره عمله بها.

قدّمه من قبل تلميذه النور حمد في إحدى أمسيات الخرطوم قائلًا: "أثرى بولا الملاحق الثقافية في الصحافة السودانية، في السبعينيات، بكتاباته النقدية الجريئة، خاصة نقده لمدرسة الخرطوم"، معتبرًا أنه وضع إصبعه، في وقت مبكر جدًا على مسارب ومرتكزات فكرة ما بعد الحداثة، قبل أن تصبح تلك الفكرة، ثيمة رائجةً ومنتشرةً، في الأوساط الأكاديمية العالمية، وأضاف النور: "لا غرو أن التف حول بولا طلائع البنائيين، في السودان، ممن أسماهم هو الأولاد أبَّان خراتي نسبة لكونهم قد تميزوا بحمل خرتايات (حقيبة من القماش) على كتوفهم، في تلك الأيام"، وقد شهدت المحافل الثقافية، في الخرطوم وقتها، الكثير من المجادلات، عن البنائية، وكل ما تعلق بها.

هدم مدرسة الامتياز

أثار بولا الجدل طويلًا بكتاباته ورسوماته التي حاول أن يسكب فيها الحياة المرئية، ونهض في سبيل ذلك إلى هدم مدرسة الامتياز الإبداعي، واختزال الفن في نمط محدد، تحديدًا الفن التشكيلي، قائلًا: "التشكيلي في فهمي هو كل من يعمل في مجال صناعة أشكال المرئيات، ابتداءً من صانعي المراكيب، وتتسع الكلمة لتشمل السمكري، مصمم الأزياء، النجار، المعماري، المشاطة، الكوافير.. إلخ"، وهو بذلك منح الحرفيين فرصة مستحقة للالتحاق بمدرسته الممتازة، عطفًا على مسألة إعادة اكتشاف رجل الشارع العادي، لا سيما أن رجل الشارع وفقًا لبولا ليس عاديًا.

غواية العناية بالآخرين

في سردية طويلة، ودع الفنان التشكيلي حسن موسى رفيق دربه بولا، واستعاد برحيله ذكرياتهما معًا، أحلامه وأفكاره وتجاربه، وبصورة أعمق غواياته، وأعظمها بالطبع "غواية العناية" بالآخرين، وهي قطعًا سبب الشعبية الواسعة التي تمتع بها بين دوائر الأشخاص المتنوعين الذين عرفوه في مختلف مراحل تطور مشروعه التربوي، مكتفيًا بذلك التوصيف وفي خاطره جملة الأفضال الفكرية والجمالية التي انتفعوا بها.

عبد الله بولا: التشكيلي هو كل من يعمل في مجال صناعة أشكال المرئيات، ابتداءً من صانعي المراكيب، والسمكري، ومصمم الأزياء

اقرأ/ي أيضًا: المكتبات العامة في السودان.. مبادرات على الأرصفة لاستعادة مزاج القراءة

كتب موسى على جدار منبر "سودان فور أوول": "أنا ضالع في تلك العصابة الملهمة التي تحلقت حول بولا في السبعينيات". وإزاء مجموعة أعمال بولا الباريسية المتأخرة التي نفذها بالزيت وبالإكريليك والأحبار، فقد انتقل وفقًا لحسن موسى، من الأسلوب السبعينياتي لمباحث تشكيلية مغايرة تمامًا. هذه المباحث الجديدة تتمدد في فضاء أيقوني واسع من رامبرانت إلى إيقون شيلي لعمر خيري ووصلحي وفرانسيس بيكون، وداخل كل من هذه الدوائر المتداخلة يتحرك بولا بعفوية وبحرية كبيرة لا تبالي إلا بانسجام الصورة المادية مع صورة الخاطر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

جاد الله جبارة.. ذكرى الكاميرا التي رسمت السودان

من جناح "غريزلدا الطيب".. الأزمة الاقتصادية تعصف بمعرض الخرطوم للكتاب