17-مارس-2016

كمال أبو حلاوة/ الأردن

الغرفة التي تراءت لي بأنها زرقاء قبل خمسة أشهر، بدت لي اليوم رمادية. الأزرق هو لون عينيه، هو لون الحبر الذي أدون به يومياتي، هو لون مدينة شفشاون التي لم أزرها بعد، هو لون الماء المالح، هو لون البحر، هو لون الدموع التي ذرفتها على جدتي، ولون موسيقى تشيت بيكر، هو لون الكدمات التي تغطي قلبي الهزيل، هو لون كوكبنا الصغير من الفضاء، هو لون الحزن الذي رسمه فان غوخ في لوحته "ليلة النجوم"، والتي علقت نسخة مقلدة مرسومة بإتقان على جدار غرفة الانتظار. أما الرمادي فهو لون القمر، ولون مئزر مريم العذراء في أيقونتها المعلقة في ممر المنزل، ولون هواء هذه الغرفة وجدرانها، ولون وجوهنا التي مسحها الحزن ولون القمر، ولون قبعة الرجل الرمادي الذي يجلس على يميني. 
***

تجلس مقابلي امرأة أربعينية. آثار البكاء تبدو واضحة على عينيها الذابلتين، يداها ترتجفان وتحتسي الماء بجرعات صغيرة ومتفاوتة من قنينة ماء رخيصة. زوجها يمسك بيدها ويحاول أن يواسيها وأن يهدئ من روعها. ابنها يحاول أن يتصرف كرجل كبير وأن يقوم بدور "القبضاي" في مساندة العائلة الصغيرة التي انتهى مطافها في هذه الغرفة الضيقة التي ضجرت من الناس.

 تقاطع طريقي مع الصبي في درج البناية، كان يدخن سجائر من نوع "جولدكوست"، هي سجائر رخيصة وتنجح في تحقيق غايتها بتسميم الرئتين. كنت جالسة على الدرج وأدخن سيجارة وأحاول أن أتمالك صوابي لأني أعلم جيدًا أن الفتاة التي ستدخل هذا الباب لن تكون نفسها حين تخرج منه. ما زالت تنتابني نوبة رعب صغيرة كلما حاولت العودة إلى ذلك الدرج، وإلى طعم السيجارة المر الذي لم يغادر فمي من حينها.

عينا الصبي جميلتان وحذقتان في آن معًا إلا أن الخذلان مقروء في عينيه السوداوين، لم يكن وجوده مزعجًا إلى هذا الحد بل كان مريحًا بطريقة غريبة، كغيمة ماطرة تجر وراءها الشمس دائمًا. حين رأيته في غرفة الانتظار ابتسمت له ورد إلي الابتسامة لأن كلانا يعلم أنه يخفي حقيقة تدخينه عن والديه.

لا أستطيع أن أحدد إن كانت تلك المرأة خائفة من الوجوه التي تحدق فيها أم من الاستحقاق الذي ينتظرها في الداخل، كانت تقف لتواجه الحائط لتغيب ملامحها عن أعين الجالسين بما فيهم ابنها وزوجها، تقف هكذا بكل قوة، كتمثال حديدي مجوف تحدق في اللاشيء وتغرق في نفسها. تحدث زوجها دون أن تنظر إليه. أستطيع أن أجزم أن يديها باردتان كظلها، وبأنها في هذا الجو الربيعي الدافئ تشعر ببردية مصدرها شق في نصفها الأيسر يتسبب لها بعاصفة تطلق عليها -بينها وبين نفسها- اسم الوحدة. عاصفةٌ لا تقوى يدا زوجها الدافئتان أو نظرات ابنها على ردعها.
***
 
على يميني، رجل يبدو أنه أصلع، يرتدي قبعةً رمادية، شديد الهدوء والتركيز، ينفث سجائر من نوع "كنت/ ألترا لايت"، نظراته ثابتة وثاقبة، حين ينظر إلي تستغرق تحديقته ثلاث ثوان، مما أشعرني -عندما استدرت لأقرأ ملامحه- بالغرابة والخجل لتطفلي على مساحة رؤيته، التي تخصه وحده.

 الكل هنا في غرفة الانتظار حريصٌ على مساحته الخاصة، لا نتبادل الكلمات أو النظرات، كل واحد منا قابع في فقاعة الجنون الخاصة به، أي كلمة أو نظرة صغيرة قد تخل من توازن الفقاعة، فتنفجر (حقيقةً وليس مجازًا).

لدى الرجل أصابع جميلة، قد تناسب أن يكون صاحبها جراحًا أو عازفًا للبيانو. هيئته الغامضة مشذبة ونظيفة للغاية، مع أن معطفه الخفيف مثقوب من الجنب، إلا أن ذلك الثقب الذي يكشف عن قميصه الداخلي لم يؤثر على أناقة مظهره.
***

على يساري رجل متوتر، يبدو أنه عجوز هرم، يحمل في قلبه حقدًا يكفي أن يغرق هذا العالم كله بالسواد. الرجل يعلم أني أبحلق فيه، لكنه لا يستجيب لنظراتي، عوضًا عن ذلك يخمد رماد سيجارته الطويلة والمنتهية على الأرض، ويشعل سيجارة أخرى، ويدخنها وهو يهز كلًا من يده التي تحمل السيجارة وقدمه اليمنى برتابة حركة عقرب الثواني في الساعة المعلقة على الحائط، في غرفة الانتظار، والتي تشير الآن إلى الواحدة والنصف تمامًا.

لسبب مجهول، الكل يدخن هنا، مع أن ورقة "ممنوع التدخين" بنسخها الثلاث معلقة على معظم جدران الغرفة الرمادية.
لو التزم العالم بالقوانين كما يلتزمون الصمت، لربما لكنا في عالم أفضل.
***

أما عن نفسي لا أعلم كيف أبدو، أخفي رأسي في شاشة هاتفي، وأحاول أن ألتزم الصمت وأن أتجاوز رغبتي الشديدة في إشعال نفسي، أو رميها من النافذة. أدون هذه الملاحظات الدقيقة والفارغة حول محيطي، لأتجاوز حقيقة أني حزينة، ولأتجاهل حقيقة أني لأول مرة في حياتي لم أشعر فيها بالوحدة كانت بين هؤلاء الغرباء.

هنالك حزن داخلي أزرق اللون يوحدنا، وفقاعة رمادية نسد صدوعها بخيوط دقيقة نغزلها من ليالي الأرق، لتتناسب مع هذه الغرفة، التي ضجرت جدرانها من حزننا وضاق سقفها من أنفاسنا الثقيلة.

اقرأ/ي أيضًا:

ليس لي شأن في ذلك

ما بعد الخامس عشر من تموز