12-مايو-2022
عمل لـ هاني عباس

عمل رقمي لـ هاني عباس/ فلسطين - سوريا

عالم ما بعد المجزرة أقسى ممّا قبلها. فحيث إنه عالم انكشاف الحقيقة بالأدلة والبراهين التي لا يُداخلها شكٌّ، إلا أنه أيضًا عالم مواجهة الناجين والباقين لعجزهم.

كلُّ ما جرى واضحٌ أمامهم. ما من حاجة إلى شروحات. مع أن الشرح موجود من قبل والآن حصلوا على ما يثبّته.

الضحايا يعرفون القتلة. لكنهم عاجزون عن الإتيان بفعلٍ، فلا يزال المجرمون يتمتعون بحصانة وحماية تجعلهم لا يُفلتون من العقاب وحسب، بل يقفون في وضعية التأهب الكاملة لارتكاب المزيد

يعرفون الجريمة مثلما يعرفون سواها. يعرفون مرتكبيها. لكنهم عاجزون عن الإتيان بفعلٍ، فلا يزال المجرمون يتمتعون بحصانة وحماية تجعلهم لا يُفلتون من العقاب وحسب، بل يقفون في وضعية التأهب الكاملة لارتكاب المزيد من المذابح. ولهذا يسامون سوء العذاب وهم يرون كيف يخفّ اهتمام الناس يومًا تلوَ يوم، وكيف يتضاءل تركيز الإعلام رويدًا رويدًا، مُفسحًا المجال بخبثٍ مدروس للنسيان حتى يحتل المشهد. لكنّ الذي يكسف شموس أيامهم في تلك اللحظة أنهم يدركون أن كل هذا الموت لن يغيّر شيئًا في الواقع.

من أجل ذلك يشعر الذين جرحتهم الأخبار والصور والفيديوهات والرسائل المنشورة واعترافات القتلة، في عالم ما بعد المجزرة، أنهم يتعرضون لمزيد من التنكيل، ويتجرعون كميات من الإهانة أكبر من طاقة الذلّ العاديّ على الاحتمال.

حتى لا يبقى ضحايا المجازر مادةً لمشاعر التضامن العابرة، وموضوعًا للاستهلاك الإعلاميّ، ليس أمامهم سوى خيار واحد: أن يتمسكوا بروايتهم ولا يصمتوا عنها. أن يستمروا في الحديث عن المجزرة حتى يبنوا وجودهم ومعناهم حولها وعليها. حتى تصبح العظام المفتّتة واللحم المحروق هو ما يجمعهم. فيكون أولئك الذين ألقوا إلى حفرة الجريمة سببًا لصناعة هوية جديدة ترفض كلَّ ما يمت للقتلة بصلة، وتنادي بالإنصاف والحقيقة، فيصبح للعدالة جماعتُها الموحدة. وإلّا ما الذي يجعل النظام السادي يخشى تشكّل هذه الجماعة إلى هذا الحد، فيحاول تمزيقها قبل التئام أجزائها بإفراج محدود عن معتقلين من منطلق "العفو عند المقدرة"، مع أنَّ سجن هؤلاء الناس بلا سندٍ أو دليلٍ جريمةٌ أخرى. ولأنه يعرف ذلك يخيف الناس بالإيحاء الضمنيّ أنّ كلامهم حول الجريمة يمنع الإفراج عن ابنتهم أو ابنهم. بالخوف، سلاحه الأمضى، يُوحي للبسطاء أن كلامهم سيؤذي المعتقلين. وكأنّ بالمعتقلين يتكئون على الأرائك في جنات النعيم! وكأن بهم سوف يُنقلون إلى طبقات الجحيم الدُّنيا بسبب كلام ذويهم!

وبذلك يبدع في تفتيت جماعة العدالة.

هذا ما يحدث بعد مجزرة واحدة، فما الذي يقال عمن يولدون في كنف مجزرة، ويكبرون على تخوم أخرى، ثم يتزوجون أو يُنجبون بالتزامن مع مذبحة جديدة، وفي آخر المطاف ينتهون في مقبرة جماعية.. ما الذي يمكن أن تقوله اللغات عن هذه الحياة المسيّجة بالمجازر؟ وكيف لنا أن نحتسب هذا الذي نعيشه حياةً لا مجزرةً بينما تحيط هذه الدماء كلها؟

أما مجزرة التضامن فعلى السوريين أن يجعلوها إطارًا لسردية الظلم السوري، لأن الشكل الذي قُدّمت به هو الشكل الأمثل لكتابة التاريخ، وإذا كانت هذه الكتابة تحتاج في العادة إلى سنوات من الجهد والتنقيب، وتظهر نتائجها بعد عقود طويلة من الجريمة، بحيث يصعب أن يأخذ العدل معناه دون ارتباطه بالحقيقة، فإن مزايا التكنولوجيا الحديثة سهّلت إمكانية الكشف والإثبات السريعين، قبل انتقال سوريا إلى زمن آخر، وفي زمن حياة ذوي الضحايا.

في مجزرة التضامن إثبات لما عاشه السوريون من موت قوبل بالإنكار، وجرى النظر اليه كجزء طبيعي من الحرب الأهلية، وكأن الأمور قبل ذلك كانت في حال من التساوي بين أطراف متصارعة على الأرض، وهو قول يرقى بذاته إلى مستوى الجريمة الأخلاقية، لأن الجرائم الكبرى لا تحدث بالسلاح والقتلة فقط، بل تلحقها، كما سبقتها، عملية تأثيم للضحايا بما يجعل من قتلهم واجبًا، ومن قاتليهم أبطالًا.

ولأن هذا النوع المروّع من الجرائم يُغيّر كل شيء، ولا يُبقي مكانًا للأفكار القديمة أو للمقاربات السابقة، لن تكون أسئلتنا: من الذي يختار ما الجريمة الكبيرة؟ وهل مجزرة التضامن هي الأكبر أو الأهم؟ بل: ما الذي يجعل مجزرة التضامن مهمة؟ والجواب: الوضوح.

في عالم ما بعد المجزرة ثمة سوريون يائسون من وجود الرحمة والتعاطف في هذا العالم، ولهذا يتعاملون مع ما حدث على أنه موت شخصيّ لكلٍّ منهم، وينظرون إلى تلك الحفرة على أنها حاضرهم

لأن كل شيء واضح ها نحن قادرون على تحديد الضحايا والجزّارين. ولأن كل شيء واضح يصبح هذا المشهد اختصارًا لما حدث في سوريا طوال عقد من الدم. التضامن تلخيص. والذي يريد القضاء عليها لا يريد إلا أن يقضي على وضوحها.

في عالم ما بعد المجزرة ثمة سوريون يائسون من وجود الرحمة والتعاطف في هذا العالم، ولهذا يتعاملون مع ما حدث على أنه موت شخصيّ لكلٍّ منهم، وينظرون إلى تلك الحفرة على أنها حاضرهم.

ولكي نتجاوز عالمًا يقيم في فخّ ما بعد المجزرة علينا أن نعيد ترتيب خطابنا على أساسها.